دراسات

القضية الإجتماعية (1)

 الحلقة الأولى

يوسف خالدي 

تبرز جميع الإنطلاقات الفكرية المهمة على مر التاريخ كثمرة لمرحلتين : المرحلة الأولى تتميز بسير الأحداث وفق مساراتها الصحيحة ، وتكون منتجة للرفاه ومفعمة به .

المرحلة الثانية : تلك التي تحيد فيها الأحداث عن مجرياتها الصحيحة ، فتنتج مسارات خاطئة ، تكون متخمة بإنسدادات في الأفق ، مع غياب للحلول وإستفحال للقضايا وتعقدها .

في كل مرحلة نجد أن التطورات تلك ، سلبية كانت أم إيجابية . تنعكس على الفكر ومساراته وعلى التطورات التي تنال الفكر بوصفه تمثيل وإنعكاس للواقع والحدث .

نجد الفكر الذي رافق مرحلة الرفاه تلك ، يحتوي على كم كبير من الإشادة بالرفاه ومفرداته زاخرة بالرخاء ومعانيه ، وإستتباب الأمن والإستقرار ، طابع مميز له ، ومعبر عن تلك المراحل ، بينما نجد القضايا الإشكالية ، تبقى مسائل ثانوية ، وغالبا يتم التعامل معها ، كجزئيات وأمور طارئة وقضايا من الطبيعة الأولى ( الطبيعة ).

. أما المراحل التي سادت فيها الأزمات ، وإستفحلت فيها القضايا . نجد أن الفكر ينصب في أغلبه على معالجة وتناول قضايا الطبيعة الثانية ( المجتمع ). يتم فيها البحث عن الحلول وطرحها في أفكار ومقترحات متباينة ، لحل تلك القضايا ومعالجتها

هذا التطور في الفكر وما يحتويه من تناقضات ، يمكننا التعرف عليه في الحضارات والمدنيات جميعهاً ، إن تعقبنا حركة الفكر الذي رافق تلك التطورات التاريخية .

فإنطلاقة الميثولوجيا في المجتمع السومري ، تعبير واضح عن مرحلة الرفاه الكبرى ، التي شهدتها مجتمعات تلك المرحلة ، وكان لها أثر وتأثير كبير على الأديان الكبرى التي نشأت بعدها ، وعلى الفلسفة والعلوم والمدارس الفنية ، التي ظهرت وإزدهرت كنتيجة .

نلاحظ ذلك أيضا في التطور الكبير الذي لقيه الفكر الإغريقي ، أثناء مراحل الرفاه تلك التي مرت بها شعوب تلك المنطقة .

يعيد أوجلان أسباب ذاك الرفاه ، إلى أراضي ميزوبوتاميا الخصيبة حيث كانت الميثولوجيا المولودة والصاعدة بإستمرار لدى السومريين ، وإلى تلك الأراضي الخصبة ، الكائنة على ضفتي بحر إيجة ، لدى اليونانيين القدامى ، حيث نجد الفلسفة تحتل مكانتها في شبه الجزيرة الإيونية ، كذلك العلم والفن .

فترة الرفاه نجدها في أوروبا الغربية وإنطلاقاً من القرن السادس عشر ، التي أدت إلى إنطلاقة فكرية أوروبية عظيمة ، إنتهت لاحقاً إلى بسط سيطرتها على العالم .

الثورات الفكرية هذه ، والتي حددها أوجلان بالمراحل الثلاث السابقة ، تتميز بأنها تناولت جميعها في مراحل الرفاه تلك ، الطبيعة كمادة أولى ، أما الطبيعة الثانية ( المجتمعات ) . فلم يتم تناولها بشكل واسع ولم تطرح فيها الأفكار الجديدة ، إلا في الفترات التي شهدت فيها تلك المراحل المشاكل الإجتماعية .

وكما نستطيع من خلال رصدنا لتاريخ الفكر ، من خلال سياق تطوره التاريخي ، التعرف على المشاكل والقضايا الإجتماعية ، نستطيع بالطريقة نفسها والمنهج ذاته ، التعرف على القضايا الفكرية في وقتنا الراهن ، من خلال رصدنا لهذه المجتمعات وتحدد قضاياها ومشاكلها وأزماتها .

يحدد أوجلان موقفه ، بالتأكيد على أنه لن يكون ملتزماً بأصول وقواعد ومناهج علم الإجتماع الأوربي للأسباب التالية:

علم الإجتماع الأوروبي متخم بمظاهر الهيمنة والتحكم ، والسبب كونه يسعى :

إما إلى فرض أفكاره وبناه وأنساقه المعرفية على الباحث ، أو الدفع به إلى الإعلان عن الطاعة في النهاية من خلال الصهر . وكلها تستجلب الخطأ أو تقوم بفرضه على الباحث .

ما العمل وما الحل إذا أمام هذا الموقف ، إتجاه علوم الإحتماع الأوروبية ؟ .

يقول أوجلان :

ليس أمامي إلا ما أمتلكه في هذا المجال من مهارات وإمكانيات وقدر كبير من المقدرة على التحليل ، أمور ستتيح له المجال في تجاوز الصعاب المفترضة . وتجنبه الإرتماء إلى أحد الخيارين ، فما يبحث عنه ليست الليبرالية وأيديولوجيتها ، وإنما الذات الديمقراطية ، والتشاركية العادلة .

هذا الموقف يجب أن لا ينظر إليه . على أنه موقف مناهض لأوربا من موقف مشرقي ، فهو يؤكد بهذا المجال ، على أن أوروبا تكمن في الشرق بالقدر ذاته الذي يكمن فيه الشرق في أوربا ، والعلة هي ، كونية معاني القيم التي باتت اليوم مشتركة وجامعة بين الشرق وأوروبا ، قالكثير من القيم الأوربية ، هي اليوم قيم شرقية بإمتياز ، بعد أن تعدلت قيم الشرق تحت تأثير أوروبا وثقافتها .

بماذا يختلف أوجلان عن غيره ، ممن حاولوا تفسير القضية الإجتماعية والبحث عن جذورها ، وعن أسباب الفقر والإستغلال وتكدس الأموال ، والسلطة والدولة والمجتمع ، بعد أن قمنا بإظهار تلك التغيرات ومساحات الإختلاف والتوافق بينه وبين مفكرين وفلاسفة آخرين في باب الإسلوب ونسق الحقيقة حول المعرفة .

ماذا عن منهج ماركس وإنجلس الذي قاما بتطويره ، كحل للمشكلة الإجتماعية في عهدهما ، بتسمية الرأسمالية نظاماً ، سيزول ما أن تقام الإشتراكية .

كذلك من سبقهم من اليوتوبيين .

وخيبات أمل الثوار الفرنسيين .

آمال لينين وكل أولائك الثوار …. في الإمساك بالرأسمالية من مواقف ضعفها ، بإختيار أضعف الحلقات منها .

يقر أوجلان بأن الجميع كانوا يتحركون في هذا المجال بوعي تام وكامل ومسلحون بذهنية متقدة ، لكن الفشل وهو القاسم المشترك بين هؤلاء جميعا ، يدفعنا إلى البحث عن أمور لا بد وأنها كانت ناقصة أوخاطئة ، غابت عن أذهانهم وتفكيرهم وأدت إلى المعاناة التي تخلفت عن تلك التجارب ، وإلى إنحرافات في الفكر ومساراته ، مهدت لتطورات عكسية لاحقاً لتلك المساعي .

فالقضية هنا يمكن تحديدها ، ليس لأن تلك الجهود كانت ناقصة ، بل ربما كانت أحيانا تزيد عن الحاجة في وقتها ، ولا لأن النضال لم يكن في مستوياته المطلوبة ، ولا فقدان روح التمرد على الواقع ، ولا الرغبات في التغيير .

فما الذي كان ناقصا .

لنستمع إلى أوجلان وهو يقدم تحليله ، ورؤاه بصدد القضية الإجتماعية كما يلي :

ميله الفطري والشديد إلى البحث عن حل ذي طابع منهجي ، عماده الحضارة الديمقراطية خارج مفهومي السلطة بمفهومها العام ، وإحتكار الرأسمالية للسلطة في إطارها الخاص . هو ما يجعله مختلفا من حيث المنهج والإسلوب وحول النتائج ، مع الكثير من المفكرين والباحثين بدءاً من والرشتاين ، ماكس فيبر ، فرناند بروديل المدارس الفرنكفوتية ، أدورنو فوكو ، موراي بوكين ، باول فيبرابند والكثير من اسماء متنورين أخرين عظام ، ومتفقاً معهم حول الخطوط العريضة وبعض التفاصيل في مجالات أخرى أحياناً .

في المجلدين الأول والثاني قام بالتركيز على مفهوم إحتكار السلطة بشكل عام ، وإحتكار الرأسمالية للسلطة بوجه خاص ، وسنتناول هذين الموضوعين بالتفصل في دراسة قادمة بعد أن تم البحث في منهجه الإسلوب ونسق الحقيقة ، الذي قاده إلى تحديد وتسمية هذه المصطلحات حول السلطة والإحتكار بشكل مبدئي .

فهو قبل أن يتحدث عن حل الحضارة الديمقراطية يوضح بأن المشكلة الإجتماعية وهي موضوع دراستنا اليوم ، عنوان مختلف لن يتم التطرق فيها إلى تاريخ السلطة والإحتكار ، ولن يتم هنا في هذا الفصل مناقشة الحل الديمقراطي . حيث سيتم تناوله في دراسات لاحقة .

ما سيم تناوله هنا هو شرح المشكلة من خلال البؤس الإجتماعي ، عبر مسارها المعاش نظرياً وعملياً .

فبعض التيارات الفكرية ، ترى منبع القضية كمشكلة في البؤس الإجتماعي . وبعضها في غياب الدولة ، والبعض الآخر في الضعف العسكري ، وآخرون في أخطاء النظام السياسي . ومنهم من يراها في الإقتصاد . أو التردي في مجال الأخلاق .

تأسيس المدينة يحتل المرتبة الثالثة بعد إحتكار رأس المال والسلطة ، من بين مولدات الإحتكار ولعبت المعابد دوماً ، دور المؤمن والضامن للشرعية الإيديولوجية .

ربما نجد في كل تلك العوامل المذكورة أو لدى كل منها ، جانب صحيح  لكنها جميعا  تنفصها الرؤية الصحيحة ، حيث يتم التغاضي عن إعتبار القضية الإجتماعية مشكلة بحد ذاتها ، ولا تشكل لديهم  إخلالا بالديناميكية الآساسية للمجتمع ، محاولات ومساعي الإخلال هذه ، يرى أوجلان بوجوب دفعها إلى الأمام ، وتحويلها إلى مسألة رئيسية أولاً ، ومواجهة تلك المساعي والتطورات الملازمة لها بالتعامل معها ، على انها كارثة مدمرة للمجتمعات . وتهدف إلى إفراغ المجتمع من جوهره ومضمونه ثانياً .
فإذا علمنا بأن هذان الأمران متداخلان معاً ، فذلك يعني بأن هناك ثمة قضية إجتماعية كبرى يتم إعفالها وهي مشكلة كبيرة وبناء على ذلك ، فإن القضايا تكون إشكالية ، حين تنشأ بفعل الإنسان ونشاطاته ، إذ لا يمكننا أن نسمي إندثار جماعات بشرية في فترة زمنية ما بالقضية الإجتماعية ، لأن هيمنة حقبة جليدية على الأرض أو جزء تسبب بذلك ، إنما فقط ما نشأ منها بيد البشر ، هي التي يمكن تسميتها بالقضية الإجتماعية ، كون الإنسان هنا هو المتسبب ، وحين يتم البحث في المشكلة لا بد من إعادتها إلى الاسباب الحقيقة المكونة لها ، وهو الإنسان ذاته كما يحصل اليوم مع البيئة ، فهي لم تتحول إلى قضية ، إلا حين تسبب الإنسان بنشوئها .

إحتكار الإنسان لرأس المال والسلطة ، يأتيان في صدارة تلك القوى المدمرة للمجتمع فالمفهومان يتضمنان في محتواهما ذاك ، المعاني المكثفة لسلب ونهب فائض القيمة . وليس فائض القيمة الناتج فقط عن كدح الإنسان كما توصل ماركس ، والمدارس الإقتصادية الأخرى إليه .

يدمج أوجلان كلا المصطلحين في مصطلح واحد يسميه بالإحتكار . فأينما يتم ذكر هذا المصطلح ، سيدل على إحتكار راس المال ، وإحتكار السلطة .

إذا كان المجتمع قادر على تكوين سياسته و بنيته الأخلاقية بحرية ، فهو مجتمع عادي وطبيعي ويصح تسميته بالديمقراطي .

لا ينوي أوجلان طرح القضايا بصيغة الرأسمالي ، الإشتراكي  أو الإقطاعي  ، أو الإستهلاكي ، كونه يرى بان تلك الصيغ ، ليست إلا تسميات وأوصاف أو بعض الصفات لا مقابل حقيقي لها على أرض الواقع .

يتخذ أوجلان من مسألة الطابع التراكمي التاريخي لنشوء ونمو الإحتكار وتضخمه مبدءأ رئيسيا يؤدي إلى ظهور النظام المدني ، والذي هو بدوره مسبب للإحتكار ومنشا له ، فالتاثير هنا جدلي أحدهما يقود إلى الآخر كما .

حين يتم أو سيتم لاحقاً ، تناول مفهوم الإحتكار ، ينبغي فهم ذلك على أنه يتم يشمل بذلك ، الإطار الإقتصادي ، والعسكري ، والسياسي ، والإيديولوجي ، والتجاري ، كون تقاسم فائض القيمة سيكون موزعا على عناصر المجموعة جميعهم ، ولو بنسب متفاوتة وفقا للظروف . فنسب التوزيع لن تتغير من جيث المضمون على المجموعة ككل .

. يرى أوجلان أن مفهوم  الطبقة  أو الدولة يقودان إلى الغموض والضبابية ويأتيان في المرتبة الثانية ، في حين أن مفهوم الإحتكار أكثر قدرة على التعبير عن مضمون وجوهر القضية الإجتماعية وتفسيرها.

يعنقد أوجلان أنه بذلك قد قام بتحديد العامل المولد للقضية الإجتماعية ، ومن خلال تحديده لهذا العامل ، الذي يتشكل حول جوهره كيان المدينة ، والطبقة والدولة . وتاريخ المدنيات ينطلق إلى حد كبير من بدء تشكل وبروز هذا الكيان الثلاثي المتشكل تاريخيا بالتدريج .

فكلما إزدادت إمكانيات الإستيلاء على فائض القيمة ، كلما إزدادت إمكانية تكثف الإحتكار والمقدرة على تنظيم نفسه وإقامة بنى معرفية ، على شكل تقاليد صلبة تحمي تلك البنى ومؤسسات الإحتكار . وكلما إزدادت إمكانيات ذاك الإحتكار كلما ترسخ وجود تلك البنى وتأصل .

كل مراحل التطور المتعارف عليها والمسماة بـ ( المجتمع العبودي ، الإقطاعي ، الرأسمالي ) . بمراحل الإنتقال إلى المدنية في تعاقبها تاريخيا ، هل كانت حتمية ، بمعنى آخر ، هل كان بالإمكان للتاريخ أن يتقدم ويسير بشكل آخر مغايرعن تلك التراتبية أو حتى وجودها ، هل كان نشوء الدولة والطبقة حتمية تاريخية لا يمكن للإنسان تجنبها.

إن كان الجواب سلبا . وكانت هناك إمكانية لمسار تاريخي آخر للمجتمعات ، لم يتم ذلك ، لما غابت الإمكانيات تلك ؟ ولأي سبب . ( التفاصيل للجواب سنجده في دراسات قادمة تحت عنوان نظام الحضارة الديمقراطي ).

يتبع ….

زر الذهاب إلى الأعلى