مقالات

الفكرُ العربي، والمسألةُ الكرديّة:

slimanmmhmudسليمان محمود

مبدئيّاً يجبُ أن نشيرَ إلى أنّ العربَ والكردَ يشتركونَ في مساحاتٍ تاريخيّة وجغرافيّة وحضاريّة ودينيّة واسعة للغاية، ويقرّ الكردُ كما العربُ أنّ الإسلامَ أردفَ شخصيتَهم ووجودَهم بكثيرٍ من المفردات والمعاني، ولذلكَ يمكنُ جعله قاسماً محوريّاً بين العرب والكرد، ولا زال العربُ يتذكّرون، بكثيرٍ من الاعتزاز والسموّ، ما قدّمهُ صلاحُ الدين الأيوبي- الكرديّ- للعرب والمسلمين، عندما دافعَ عن الدين الإسلاميّ وردَّ هجماتِ الصليبيين عن العالم العربي والإسلاميّ. ويُعتبَرُ الإسلامُ أهمَّ صائغٍ للرؤية الكونية والعقائدية التي من خلالها ينظرُ الكردُ والعربُ على السواء إلى الكون وماهية الوجود. وفي ذلكَ خلفيةٌ مركزيةٌ يجبُ أن يُبنى عليها أيُّ خطابٍ سياسي أو فكريّ لصياغة أيّ علاقةٍ كرديةٍ- عربية. وغير الإسلام، فإنّ عاملَ الزمن قد ساهمَ إلى أبعد الحدود في تلاقي وتمازُج الكردِ بالعرب وبالعكس. وقد تكرّسَ هذا التمازج من خلال التداخُل الجغرافيّ لموقع الكرد ومواقع العرب المكانيّة، فالكردُ وجودُهم تاريخيٌ في المنطقة التي نصطلحُ على تسميتها بالعالم العربي والإسلامي، والعربُ وجودُهم تاريخيّ أيضاً. وحتى إذا تمكّنَ الكردُ من إقامة مشروعهم السياسي، فإنّ أقربَ حلفائهم المركزيين سيكونون العرب والمسلمين، لأنهُ من غير المنطقي إهمالُ حقائقِ التاريخ والجغرافيا في مجال المشاريع السياسية الكبرى، ولا يمكنُ أن تكونَ (واشنطن  على سبيل المثال)هي الحليفةُ المُرتقبةُ للمشروع الكرديّ، وهي التي جيّرتِ القضيّةَ الكردية لصالح حساباتها السياسية والاستراتيجية، وساهمت مع حلفائها في العالم العربي إلى وأدِ القضية الكردية ومُلاحقة رموزها بأثمانٍ باهظةٍ مدفوعةٍ من قبل عواصم المحور الأمريكي في خطّ طنجة- جاكرتا( خط عرض العالم الإسلامي)، كما لا يمكنُ تصوّر أن يقيمَ الكردُ علاقةً استراتيجية مع عواصم القرار الدولي المتورّطة في وأد القضيّة الكرديّة والمزوّدة الأساسية للأسلحة للمَحاور الجغرافية التي يتمركزُ الكردُ في نطاقها. ويبقى القولُ بأنّ الحليفَ الطبيعي للمشروع الكرديّ هي الشعوبُ العربية والإسلاميّة، وعلى هذا الأساس يجبُ أن تُعيدَ الحركةُ الكرديةُ بكلّ شقوقها بناءَ خطابها السياسي والفكري ربما ينسجم مع حقائق التاريخ والجغرافيا، كما أنّ هذه الحركة عليها أن تعيدَ الاعتبار للإسلام الذي أعطى الكردَ الكثير، وليسَ كما روّجَ لهُ بعضُ يساريّو الحركة الكرديّة من أنّ الإسلامَ استأصلَ الكردَ من واقعهم الجغرافي والتاريخي والشخصانيّ. كما أنّ العربَ عليهم أن يتخلّوا عن عصبيتهم القوميّة والتي تحولُ بينهم وبين الإقرار بحقوق الثقافات الأخرى التي كانت مُتجذّرةً في الواقع العربي والإسلاميّ…

إنّ الإسلامَ من أكثر العناصر قدرةً على إجراء مُصالحةٍ تاريخيّة بين العرب والكرد، ومثلما جمعَهم في حقبٍ تاريخيّة سابقة  في ساحات جهادٍ واحدة وفي ساحات بناءٍ حضاريّ واحدة، قادرٌ اليومَ أن يصيغهم في مشروعٍ متكاملٍ، ولهذا وجبَ على الكرد كما العرب إجراء مُصالحة مع النفس ومع الذات، وإجراء مراجعة شاملة لمفردات الخطاب الفكري والسياسي الذي صاغ المسلكية السياسية للعرب أو للكرد. ومن ثمّ الانطلاق نحو خطابٍ انفتاحي يستوحي مقوّمات الموروث الحضاري الإسلاميّ القائم على مبدأ العدل والمساواة في الحقوق والواجبات من أجل رؤيةٍ مستقبليّة أكثر إشراقاً. وفي هذا السياق قد يبادرُ بعضُ الكرد إلى طرح إشكاليةٍ من قبيل أنّ العربَ أولى بصناعة خطابٍ جديدٍ يستوعبُ الكردَ كأمّةٍ ذاتِ استقلالية في الخصوصيّة على اعتبار أنّ العربَ في مرحلة الدولة والكرد في مرحلة النضال من أجل الدولة أو من أجل المشروع المستقلّ، وهذه الإشكالية وإن كانت وجيهةً إلى حدٍّ ما إلاّ أنه لا ينبغي المزج بين حركة الأنظمة والشعوب وتحديداً عندما يتعلّقُ الأمرُ بالعالم العربي والإسلامي، لأنّ النظُم العربية والإسلامية كانت على الدوام في الاتّجاه المعاكس لتطلّعات الأمّة وآمالها ومشروعها الحضاريّ.

 ومثلما ينافحُ الكردُ عن مشروعهم السياسي والثقافيّ وهذا من حقّهم، تناضلُ الشعوبُ العربيةُ والإسلاميةُ من أجل حقوقها في الديمقراطية ومبدأ التداول على السُلطة وغير ذلك من الحقوق التي باتت في الألفيّة الثالثة من البديهيّات، لكنها في العالم العربي والإسلامي من المُحرّمات.

وبدل الدخول في جدلٍ عقيمٍ حولَ مَن أولى بإنصاف مَن! وفتح ملفّات الماضي، فإنه من الضرورة بمكانٍ إعادة رسم معالم استراتيجية كردية- عربية في الفكر والسياسة والحركة وكلّ ذلك من أجل الأجيال القادمة التي يُرادُ لها أن تنسى خصوصيتها في زمن العولمة والكوكبية، ولن يتأتّى إحقاقُ هذه الخطوة بدون فتح حوارٍ موسّع بين الأنتليجانسيا العربية والكردية والتي بيدها القدرة على نسج هذه الاستراتيجية في ضوء تراكمات التجارب السابقة. وعلى الأنتليجانسيا العربية أن تقرَّ بأنّ الشعبَ الكرديّ قد تعرّضَ إلى مظلوميّةٍ عزّ نظيرها. فالظلمُ لا إيديولوجيّة لهُ ولا قاعدة فكريّة له، الظلمُ ظلمٌ وهو مُستنكَرٌ في كلّ الشرائع والأديان والفلسفاتِ البشرية، ومثلما اهتمّتِ الأنتليجانسيا العربية بكبريات القضايا السياسية والفكرية في القارات الخمس، فمن بابٍ أولى إيلاء القضية الكردية اهتماماً من نوعٍ خاصّ، لما لهذه القضية من تداخُلٍ عميق بواقعنا العربي والإسلامي، وفي الظرف الراهن لا يمكنُ المُراهنة على الأنظمة العربية لإيجاد حلولٍ جذريّة لها باعتبار أنّ النظامَ العربي الرسمي يسجّلُ باضطراد انهياراتٍ خطيرة في كافة المجالات. ولا يمكنُ منطقياً المُراهنة على المريض في تفعيل أيّ موقفٍ، المُراهنةُ الوحيدةُ يجبُ أن تكونَ على الأنتليجانسيا العربية والكردية والتي بدورها يجبُ أن تتفاعلَ وفقَ الأسس الآنفة الذكر، وخلق خطابٍ مُنسجمٍ ونشره بين الجماهير العريضة…إنها خطوةٌ  كبيرةٌ ومغامرةٌ غير مسبوقة.

لكن يجبُ أن نبدأَ.

زر الذهاب إلى الأعلى