مقالات

الدبلوماسية بين كونها قيمة لإرساء السلام أو أداة لإطالة أمد الحرب؟!

شهدت منطقة روج آفا وشمال سوريا في الآونة الأخيرة الكثير من اللقاءات الدولية والداخلية حيث صُبَّتْ جميعها بشكل أو بآخر إلى إبداء الدعم للتجربة الرائدة التي تشهدها مناطق شمال وشرق سورية وهذا ما بدا واضحاً للعيان في لقاء عين عيسى الذي جمع مختلف الأطياف من الداخل والخارج السوري، وكذلك المنتدى الدولي بشأن التغيير الديمغرافي في عفرين الذي انعقد مؤخراً في مدينة عامودا، وغيرها من الوفود الدولية والإقليمية التي زارت مناطق الإدارة الذاتية  هذا بالإضافة إلى الدعم والمساندة التي تتلقاها قوات سوريا الديمقراطية من التحالف الدولي في حربها ضد الارهاب، ولكن السؤال الذي يمكن أن يَطرحَ نفسه: هل يمكن استثمار هذا الدعم واللقاءات دبلوماسياً وسياسياً لخدمة التجربة الديمقراطية في شمال سوريا؟؟ أو بمعنى آخر هل من الممكن أن تكون هذه المنتديات والمؤتمرات الداخلية والدولية تمهيداً سياسياً لانفتاح دبلوماسي رسمي تجاه مناطق شمال وشرق سوريا؟

من المعلوم أن الدبلوماسية حسب ما هو متداول في الأعراف الدولية : إنها كلمة لاتينية معناها وثيقة رسمية، ومعناها وثيقة أو ورقة مطوية، وتُعرف بأنها وسيلة اتصال ونُظم بين الدول الأعضاء في الجماعة الدولية لإجراء المفاوضات بين الأمم بطريقة رسمية.

والدِبلوماسيّة في معجم المعاني الجامع هي صفة تخص تمثيلاً سياسياً للدولة، وتسيير وتصريف شؤونها الخارجية في الدول الأجنبية الأخرى، وأساليب التعامل السياسي بينَ الدول؛ هي فن ممارسة العلاقات الدولية مثل إبرام المعاهدات، والاتفاقات، والتفاوض،

ويمكن تعريف الدبلوماسية من منطلق السياسة وكما هو متداول  من وجهة نظر الهيمنات العالمية بأنّها استمرار الحرب بوسائل أخرى ويتضمّن هذا التعريف استخدام القوّة الناعمة والقوّة الخشنة، وقد عرّف (جوزيف ناي) وهو أستاذ العلوم السياسية الأميركي والعميد السابق لجامعة جون كينيدي القوّة الناعمة بأنها المقدرة على إقناع الناس بآرائنا دونَ استخدام القوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية، وتحدث (وليام سترانج)، وكيل الوزارة الدائم في وزارة الخارجية البريطانية من 1949 إلى 1953م عن الدبلوماسية في زمن الحرب، حيثُ قال إنّها تصبح مسؤولية كل فرد عندما تصبح الحرب مأساة الجميع دون استثناء.

هنا يمكننا استخلاص نتيجة بأن دبلوماسية الهيمنات المركزية هي في حقيقة الأمر  تمهيد للحرب أو إطالة أمد الأزمات عن طريق اللعب على التناقضات  بما يخدم مصالحها ومنافعها وهذه النتيجة قد تبدو كارثية أيضاً  إذا ما قارناها بالحرب المباشرة والنزاعات الدولية المستفحلة والمدمرة  وذلك لسبب بسيط، وهو تفضيل المصلحة والمنفعة على القيم والمبادئ الانسانية وقد تكون هذه النقطة تحديداً هي سبب جل النزعات والأزمات الدولية المتفاقمة والتي تكون الدبلوماسية الناعمة  الدور الرئيسي في إبقائها دون حلٍّ أو بمعنى آخر إضفاء نوع من الدبلوماسية على تناحر أطراف النزاع والصراع وفرض الحل الذي يُبقِي الأزمة ويحقق مصلحة ومنفعة الهيمنات المركزية وهو ما نشهده واقعاً في الشرق الأوسط الذي بات يترنح يميناً ويساراً في زوابع المصالح والصفقات السياسية بوسائل وأدوات دبلوماسية.

وبالعودة الى دبلوماسية الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا والتي تستند إلى مبادئ الأمة الديمقراطية وآليات الإدارة الذاتية  فإن القائد عبد الله أوجلان يستخلصها بالقول: ( تُعنى الدبلوماسيةُ الصائرةُ مرةً أخرى أداةً لإرساءِ السلمِ والتعاضدِ والتبادلِ الخلاّقِ فيما بين المجتمعاتِ في كنفِ تقاليدِ الأمةِ الديمقراطية، بحلِّ القضايا العالقةِ أساساً. إنّ دبلوماسيةَ الأمةِ الديمقراطيةِ وسيلةٌ لتكريسِ السلمِ والعلاقاتِ المفيدة، لا لإشعالِ فتيلِ الحروب. وهي تُعَبِّرُ عن وظيفةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ نبيلةٍ وثمينةٍ يؤديها الناسُ الحكماء. كما إنها تؤدي دوراً هاماً في تطويرِ وتأمينِ سيرورةِ المراحلِ التي تدرُّ بالنفعِ المتبادلِ وتُعَزِّزُ علاقاتِ الصداقةِ فيما بين الشعوبِ المتجاورةِ ومجموعاتِ الأقاربِ على وجهِ الخصوص. كما تُعتَبَرُ قوةَ إنشاءِ المجتمعياتِ المشتركةِ والتركيباتِ الجديدةِ لمجتمعاتٍ أرقى.)

هنا يمكن القول: إن استخدام الدبلوماسية كأداة منفعية وليست كقيمة ومبدأ لإنهاء النزاعات والصراعات الدولية تُعد الوسيلة الأساسية للهيمنات  المركزية  وأدواتها من الدول القومية وذلك على شكل نشاط  يسبق اندلاع الحروب بين الدول حيث بالمقدور اعتباره توطئة للحروب الناشبة على مدى  تاريخ نزاعات الدول السلطوية والقومية.

إن لجوء الدول القومية إلى مأسسة تلك العلاقة على شكل هيئات وبعثات مؤطرة بتشريعات القانون الدولي للهيمنات المركزية هي  تُعزى إلى نزعة الربح والمصالح المادية فإذا كانت تلك العلاقات تَدرُّ مَزيداً من الربح في وقت السلم، فلا داعي إذاً لإشعال فتيل الحرب، وتعقد العلاقات المربحة دبلوماسياً؛ أما إذا كان ميول الربح الأعظمي متعلقٌ بالحرب فلن تستطيع كل القوى الدبلوماسية أن تقف في وجه الحرب المُربِحة حتى لو تعاضدت جميعها في سبيل ذلك، وعليه فعمل الدبلوماسية تنتهي إلى هذا الحد أو تُأقلم نشاطها حسب الانتفاع الأعظم، وهكذا فالدبلوماسية المختزلة إلى منطق الربح ونفوذ المصلحة بحيث لم يعد لها أية صلة مع نمط العلاقة القيمة والثمينة فيما بين المجتمعات والتي طالما رصدت على مدار التاريخ؛ أي أن الدبلوماسية من منطق السلطة والنظم الدولتية التي تتخذ من القومية العنصرية تتحول إلى  أداة  تلاعب ومضاربة في ألاعيب الحرب المربحة فيما بين هذه الدول ولتصبح الدبلوماسية وسيلة  لتهيئة أجواء الحروب وليست لاستتباب السلم وإيجاد الحلول لإنقاذ وخلاص الشعوب والمجتمعات؛ فما يمكن ملاحظته طيلة سنوات الصراع السبع في سوريا وما تبعه من نشاطات دبلوماسية ومؤتمرات دولية هي كانت فقط لإطالة عمر الأزمة وتعقيدها فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر مؤتمرات الأستانة وسوتشي  بصفقاتها الإحدى عشر؛ نجد أنها جرت بتقاطع نشاطها الدبلوماسي والسياسي المستندة إلى المصالح والمنافع القائمة على المحاصصة المادية للدول القومية الاقليمية بين كل من النظام وايران وتركيا وبرعاية من الهيمنة المركزية الروسية  حيث تم تأطير الصراع بغطاء دبلوماسي وتشريعه سياسياً تحت يافطة ما تسمى بمناطق خفض التوتر أو المنزوعة السلاح، والتي لم تكن سوى توطئة لأجواء حرب كبرى مقبلة عليها المنطقة برمتها والتي بات ملامحها ظاهرة للعيان من خلال العدوان التركي على مناطق شمال سوريا وتهديد النظام بالقضاء على التجربة الديمقراطية للإدارة الذاتية والتهديدات الروسية المبطنة بالادعاء بقيام التحالف وأمريكا بالتمهيد لإنشاء كيان كردي والتي هي في حقيقة الأمر تمهيد دبلوماسي لشرعنة العدوان التركي ومجاميعها الارهابية وكذلك لشرعنة تهديدات النظام البعثي وإيران لمناطق روج آفا وشمال سوريا حيث يمكن القول إن هذه اللغة الدبلوماسية الناعمة والخشنة معاً  تسعى جاهدةً للحفاظ على مصالح هذه الدول القومية السلطوية وتأطيرها بغطاء شرعي وذلك عبر ما تسمى بلجنة تشكيل الدستور المُشكّلةِ في دوائر الاستخبارات لهذه الدول وتحديداً نتيجة لنشاطها الدبلوماسي التي تم التوافق عليها في القمة التي تم عقدها في طهران  برعاية روسية.

ما يمكن التنويه إليه هنا إن هذا التوافق الدبلوماسي والسياسي كان هشاً، وذلك لأسباب تتعلق بأطراف النزاع أولاً وصراعها التاريخي، وأسباب تتعلق بتناقض وتنافر المصالح بين هذه الدول باستثناء توافقها على معاداة الشعب الكردي، وهذا ما يمكن ملاحظته من بوادر الفشل المتزايدة في مناطق ما تسمى بمنزوعة السلاح وتناحر فصائلها ومجاميعها الارهابية البينية وكذلك الخروقات التي تشهدها هذه المناطق من طرفي النزاع وخاصة بعد استخدام السلاح الكيماوي جنوب حلب من قبل الفصائل الممولة تركياً، و تحشدات النظام الجديدة في محيط إدلب وحماة والساحل وقصفها المتكرر للمناطق المحتلة تركياً.

هذا الفشل الذي بات ملامحه جلية, كان السبب الرئيسي للتهديدات التركية لمناطق شمال سوريا وتغطية غير معلنة لإخفاقها الدبلوماسي والسياسي لشرعنة احتلالها للمناطق السورية، وهي أيضاً هروب من روسيا للأمام وذلك عبر ترويجها لادعاءات كاذبة من قبيل أن أمريكا تقوم بإنشاء كيان كردي شمال سوريا، وذلك كغطاء دبلوماسي للعدوان التركي على مناطق شرق الفرات تمهيداً لتسليم إدلب للنظام والتي لم تتم بموجب صفقاتها و توافقاتها الدبلوماسية والسياسية مع تركيا.

إن الفيدرالية الديمقراطية شمال سوريا هي بأمس الحاجة إلى دبلوماسية براغماتية؛ سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الاقليمي  أو العالمي؛ فللفعاليات الدبلوماسية دور عظيم الأهمية والإيجابية للحفاظ على المكتسبات المجتمعية وكذلك على مستوى الاعتراف بالوجود وحمايتها، حيث يمكننا القول في هذه الجزئية من المقال: إن الشعب الكردي وعموم المكونات المتعايشة معه من أكثر المجتمعات التي كانت ضحية للألاعيب الدبلوماسية عالمياً وإقليمياً وداخلياً إلى حدٍ كبيرٍ خلال الماضي القريب، فقد واجه الشعب الكردي الذي حَمَلَ رايةَ التغيير والتحول الديمقراطي لضمان سوريا جديدة  تعددية, مشاهد أليمة وصلت لدرجة التطهير الثقافي والتصفية الوجودية كما يحدث في عفرين، وبقدر ما للمتواطئين مع العدو  من دور في ذلك فإن افتقار الدبلوماسية لمجلس سوريا الديمقراطية للأساليب العصرية أيضاً كان له نصيبه الوافر فيه ومن هنا يتعين على دبلوماسية الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا تشكيل محفل مشترك داخلياً  وخارجياً حيث يمكننا اعتبار المؤتمر التحاوري الذي عُقدَ في عين عيسى بداية وانطلاقة جيدة يمكن البناء عليه بالدعوى لعقد مؤتمر سوري برعاية دولية لوضع دستور سوري توافقي بعيداً عن الأجندات الإقليمية البعيدة عن المصالح السورية فمثل هذه المحافل هي حاجة مُلحَّةٌ  يتوجب العمل عليها بجدية في مركز الفعاليات الدبلوماسية، كما يمكن التنويه أيضاً إلى فعاليات المنتدى الدولي الذي عُقِدَ في مدينة عامودا بشأن الجينوسايت الذي يتعرض له إقليم عفرين بأنها قفزة وسبق  دبلوماسي وسياسي موفق؛ من شأنه تمهيد الأرضية دولياً لفضح ممارسات محاور الشر المطلق في المنطقة المتمثلة في تركيا وايران ونظام الأسد، كما يمكن إقامة علاقات دبلوماسية مع دول المجموعة المصغرة التي دعت إلى تشكيل لجنة لصياغة دستور سوري توافقي يشارك فيها مجلس سوريا الديمقراطية وخاصة إن بعض هذه الدول بدأت بزيارة دبلوماسية غير معلنة لمناطق شمال سوريا كالسعودية والإمارات ومصر والأردن ودول الاتحاد الأوربي كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وأمريكا المتواجدين فعلياً في شمال سوريا وذلك  لضمان السلم الأهلي وإبعاد شبح الحرب التي طالما كانت دبلوماسية الدول القومية التسلطية أداة لاستدامة الصراعات وتأزمها.

إن ضمان نجاح أي نشاط  دبلوماسي  يكمن في ممارسته كقيمة إنسانية نبيلة لتحقيق السلام  سواء ضمن مكونات الوطن الواحد أو بين الأمم والشعوب، والسبيل لتحقيق ذلك هو الابتعاد عن الصراعات الطائفية والعرقية والعنصرية.

لقد بات من الصعب على سوريا كدولة أن تتخلص من مصيرها التراجيدي المأساوي  نتيجة ذهنية النظام القائم، وبقايا المعارضة المرتهنة لتركيا, حيث يمكننا التأكيد هنا إن الخط الثالث في السياسة السورية القائم على إرادة المجتمع والشعب، والتي ستفتح الآفاق لبناء سورية تعددية ديمقراطية لا مركزية باستطاعتها أن تحمي قِيَم الشعوب وتنوعها وغِناها الثقافي في المنطقة، والتي أثبتت الوقائع الدائرة والتجربة العملية لنظام الفيدرالية الديمقراطية  لشمال سوريا بأنها السبيل الوحيد في إنقاذ سوريا أرضاً وشعباً.

 فكلما تم الفهم الصحيح لمشروع الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا عبر فلسفة الأمة الديمقراطية التي تستند على القيم المشتركة للشعوب، عندها سيتكاتف الجهود للوحدة على أساس المبدأ الاستراتيجي وتطويره والاعتراف به دبلوماسياً، وعليه يتوجب  تكثيف النضال الدبلوماسي من كافة الجوانب داخلياً وخارجياً  كسبيل لإرساء الأسس الديمقراطية والحياة الحرَّة الكريمة بأجواء من السلام والطمأنينة.

زر الذهاب إلى الأعلى