مقالات

الإنسانية قيمة لا يدركها إلا الأحرار

دلبرين فارس

إن منح الإنسانية والحياة واكسابها القيمة الحقيقة لها أمرٌ في غاية الأهمية والصعوبة في هذا العصر الذي كثر فيها النظريات والأفكار حول قيمة الإنسان، لكن العلة ليس بأدراك هذه القيمة المطلقة فقط، بل من هم هؤلاء الذين سيخطون الخطوة الأولى في هذا الدرب الشاق، لاريب إن القادرين على فهم الإنسانية، وينطلقون بخطواتهم الأولى بكل إرادة حرة؛ هم من سيتمكنون في النهاية من كتابة التاريخ الإنساني واكساء الإنسان ثوبه الحقيقي.

بطبيعة الحال فإن ثمن الحياة الحرة قَيِّمة للغاية، والعمل والتضحية والشجاعة والتفاني وقبل كل شيء (بناء الثقة) أمرٌ ضروريٌّ في تمكينِ شعبٍ يدركُ معاني الحياة القيمة.

واجهت الإنسانية ومنذ فجر التاريخ تحدياتٍ صعبة، رافقها إذلال الإنسان واستعباده من قبل بني جنسه، وتعرض للاضطهاد،  وبالنتيجة أصبحت الإنسانية بمفاهيمها تَأِنُّ تحت نِعالِ المستبدين الجائرين.

بلا شك، إن تصحيح مسار التاريخ الإنساني، ووضع المفاهيم والقيم في نصابها، و إعادة الحياة الحرة الكريمة للإنسان  سيكلف الكثير، وشاهدنا البدل الذي قدمه رهطٌ من الثوريين والإنسانيين الأوائل في سبيل الدفاع عن الحياة الحرة الكريمة.

في عالمنا المعاصر وضمن جغرافية صغيرة من على سطح كوكبنا، يمكن أن نتعرف على من يقودُ هذا الاتجاهَ في يومنا هذا، المبنيِّ على الأضدادِ أصلاً من خلال جملة من الصفات التي يكسبها الشخصية الإنسانية الثورية القادرة على تجاوز هذه الصعاب والتحديات، يمكن أن نجملها بالشخصية الكادحة، المضحية والمقدامة القادرة على الإيفاءِ بالعهود، والتي تكسب ثقة محيطه. فالإنسان الذي يحمل في داخله هذه الصفات وهذه الخصوصية، ويناضل ويعيش لهذه المبادئ، هو الإنسان الحرُّ، والذي يجلبُ للإنسانيةِ الحرية، ويعطي للحياة القيم.

وعلى هذا الأساس تكون الشخصية القيادية لمجتمعه وللإنسانية جمعاء، وحريته لن تكون لشخصيته فقط، بل سيكون نضاله من أجل حرية مجتمعه، وبمعنىً آخر ( إن حرية الفرد تمر عبر حرية المجتمع)، وليس كما يَدَّعي بعضُ الاتجاهاتِ الفكريةِ الفردانية؛ خاصةً تلك المدعية لليبرالية.

إن تاريخَ هذا الأرض مليءٌ بالصراعات والكوارث البشرية، والتي كانت في مجملها صراعات وحروب من أجل السلطة، ساحة الصراع كانتْ كْردستان، هذه الأرض التي حملت وتحمل في طبيعتها أضداد الطبيعة بكل تنوعها الجميل.

شعبُ كُردستانَ وفي مقدمتهم الكُرد، كانوا ضحية هذه الصراعات السلطوية، فتحت وطأة أقدام المستبدين والطغاة، عانَّ الكُردُ من الإبادة والقمع والنهب والسلب والاستعباد، ومُرِسَتْ عليهم أبشع السياسات، فمن التقسيم والتشتت، إلى الأنفال والكيماوي، والتهجير والتتريك والتعريب والتفريس، ولم ينجوا من القتل والخنق، والتقطيع والحرق والصلب والغرق على يد المتسلطين المحتلين لأرضهم.

وفي سياسة نفي الكرد عن كُردستان وعن هويتهم الكردية كشعب مثل بقية شعوب الأرض، حاول البعض نعت الكرد بأحفاد الجن، وآخرون نسبهم إلى البرابرة والغجر، فيما اعتبرهم البعض وبمنهجٍ شوفيني بأنهم بدو الفرس، وأتراك الجبال، أو قبائل همج جاءوا من أواسط آسيا، بينما ذهبَ آخرونَ بالقولِ بأنَّ الكُرد هم قبائل عربية من قحطان وعدنان، ومن السخرية إن البعض وممن يعتبرون أنفسهم  من النخبة المثقفة بين أبناء شعبهم اعتبروا الكرد عرب سوريون…

من هذا الواقع الساخر والمشين بحق الإنسانية المقدسة في الفلسفة والدين والعلم،  ينطلقُ الرعيلُ الكرديُّ الأولُ في النصف الثاني من القرن الواحد والعشرون، لبناء الشخصية الثورية الحرة الهادفة لتحرير واقعه من هذا (الجثام) القابع على رقاب الشعب.

في مقتطفاتٍ من الشخصية الكردية الحرة، يسطع شخصية  قائد الحركة الإنسانية المعاصرة عبدالله اوجلان (APO) كشخصية احتوت في داخلها مجتمعاً وتياراً يهدف للتخلص من الاستعباد والاستبداد، وينقل بالإنسانية إلى سويةٍ أرقى تليقُ بالقيمِ الحضاريةِ للشرقِ الأوسط.

  في سنة 1970 وصل الحد بهذه الشخصية الكردية المنتمي للرعيل الثوري الإنساني المعاصر إلى القول:”  أيتها الحياة إما أن أعيش حراً، وإما أن أموت”.

من خلال  هذه الحتمية التي توصل إليها قائد الشعب الكردي، والتي جاءت نتيجة الواقع المذري الذي عانَّى منه الشعب الكردي على يد سلطات الاستبداد التركي، الذي صب جَمَّ غطرسته على الكرد الذين حاولوا بشتى الوسائلِ العيشَ حراً على أرضه، وإلى جانب جيرانه الترك والعرب والأزر والفرس والأرمن والسريان…..، لكن عصا القمع والتنكيل التركية كانت دائمةَ التسلطِ على رقابهم، وجرثومة التتريك  بدأت تنخر في عظام كرديتهم، فلم يبقى للكرد إما الاستسلام والعيش كقطيع الماشية، وإما أن ينهض من جديد لينتفض في سبيل حريته وكرامته المسلوبة.

لذا كان على عاتق هؤلاء وفي مقدمتهم الشخصية القيادية، أن تحمل في داخلها أعباء مئات السنين، وتراكماتٍ من التخلف والأنكار للشخصية الإنسانية الحرة، لذا فقد انطلقت هذه الشخصية لمعرفة الواقع وأدراكه عن قرب، وفي مركز الاستبداد. فجال وصال بين أنحاء المعمورة، فكان التقاؤه بعددٍ من مناضلي اليسار التركي وفي مقدمتهم (دنيز كازميش ويوسف أصلان، وماهر جايان، فرصة كبيرة لأن يتعرف على الشخصية الثورية الحرة التي لا تنتمي إلا للإنسانية، وما حدث لهؤلاء اليساريين الأتراك فيما بعد، وما وعد به عبد الله اوجلان هؤلاء في إكمال مسيرتهم النضالية، شَكَّلَ الخطوات الأولى لبناء الشخصية الثورية الكردية المعاصرة، (القدرة على اتخاذ القرار بإرادة حرة)، ومن هذا الأساس انطلقت مسيرة النضال، لدى الشعب الكردي المنهك تحت نير الاستبداد في تركيا. وكنتيجة فأن أحدى أهم صفات الشخصية الحرة الوفاء بالعهد).

 وفي شخصية كل من حقي قرار وكمال بير، الشخصيتان الثوريتان اللتان كانتا لهم أثرٌ وتأثيرٌ متبادلٌ في شخصية القائد (APO) خلال لقاءٍ مدته لم تتجاوز نصف ساعة، كانت كافية لبناء صداقة لا يقطع وصالها إلا الموت،  هنا يمكن أن نقول :”إن مسيرة آلاف الأميال نحو تحرير مجتمعٍ ما، تبدأ ببناء الثقة بكل روح رفاقية”، لا شك إن حقي قرار الذي استشهد على يد مجموعة مرتزقة (النجمة الحمراء)، هذه الشخصية، والتي قال عنها القائد ووصفها بأنها “الروح الخافية بالنسبة له” قد أثَّرَتْ كثيراً في منسوب النضال الثوري، والانطلاقة الثورية للشخصية الحرة، إن مثل هذا التعبير لا يستخدمها، ولا يمكن أن تُنْسَبَ إلا لشخصيةٍ مُدركةً لقيم الحياة الإنسانية الحرة، والتي يتشارك فيها كل الشعوب بكل مناهل قيمها الثقافية، بعيداً عن زبانية السلطة وطغاة التاريخ.

من هنا يمكن القول وبعباراتٍ بسيطة أن شخصية القائد APO  لم تكن شخصية فردية باحثة عن فضاءٍ من الحرية  الذاتية، فآلاف الشهداء على دروب الحرية، وآلاف المعتقلين في زنازين الاستبداد، والملايين من الجماهير المناضلة والثائرة   في كردستان وفي أرجاء  الشرق الأوسط وأوروبا، كل هذا لا يمكن أن نغفله أو أن نفهمه إلا من خلال جملة واحدة، (الشخصية القيادية الحرة هي في بناء مجتمعٍ حرٍ يثورُ على مستبديهِ ويعيدَ للإنسانيةِ قيمتها، ويعيدها إلى مسارها الطبيعي، وفي هذا الفضاء الثوري الإنساني يمكن أن نستشف نبض الثورة في روج آفا والتي تنضب بالروح الإنسانية.

زر الذهاب إلى الأعلى