ثقافةمانشيت

اغتيال دجلة والفرات حضارةً وشعباً

كثيرة هي التسميات التي تُطلق على الحضارات التي نشأت على شواطئ دجلة والفرات ولا تزال إلى وقتنا الحاضر تحتفظ بعراقتها وأصالتها المتجذرة في عمق التاريخ، حيث تغنَّى بها الشعراء والأدباء وحِيكَت حولها الروايات والقصص التي تبجِّل هذين الرافدين المُهمين والمؤثرين على الحضارة البشرية جمعاء؛ فمِنَ المعلوم والواضح للعيان أن التسميات التي أُطلقت عليهما تدل بشكل واضح على أنهما كانا من أهم أسباب الرُّقي الإنساني والحضاري الذين يعتبران دون شك أنهما منبع لكافة الحضارات اللاحقة حيث أطلق عليه ميزوبوتاميا –ميزرابوتاميا – بلاد ما بين النهرين – الهلال الخصيب – بلاد الرافدين ….

كما جاء ذِكر هذين النهرين العظيمين في أديان وطقوس الشعوب القاطنة على ضفافهما، وأضفوا عليهما الكثير من القداسة ومازالت بعض هذه الأديان تمارس طقوسها الدينية كالتعميد والتطهر في مياه الأنهار الجارية لاعتقادها أنها مياه مقدسة تُطهِّر الروح من الخطايا كالديانة المندائية في العراق مثلاً، والتي أضفت الكثير من القدسية على نهر الفرات؛ كما جاء في كتابهم المقدس الكنز ربا: (صغيراً أنا بين الملائكة الأثريين طفلاً أنا بين النورانيين ولكني أصبحت عظيماً لأني شربت من ثغر الفرات).

واستمر الحالُ مع الديانات الإبراهيمية الثلاث، حيثُ وردَ ذِكر الفراتُ في الكتابِ المقدس (العهد القديم) على أنه أحد الأنهار المتفرعة من الجنة [سفر التكوين – الاصحاح الثاني – الفقرة 14]. وورد عن النبي محمد (ص) أخبرَ فيه مستمعيه بأنَّ الفرات من أنهار الجنة [صحيح مسلم – المسند الصحيح/2839: «سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة»].

وهنا يتبادر إلى الأذهان ونحن نسمع ونشاهد ونقرأ في هذه الأيام عن احتمال نشوب حرب المياه بين كل من العراق وتركيا وإيران وسوريا على منابع نهري دجلة والفرات وروافدهما!!!

هل هذه الدول الأربع تمتلك الأحقية في تقاسم ثروات بلاد ما بين النهرين أو ميزوبوتاميا (كردستان)؟

وهنا يمكن التعميم أكثر هل يحق لهذه الدول المهيمنة اغتيال حضارات الشعوب وتاريخها ورقيها بممارساتها البعيدة عن القيم الإنسانية لتحقيق مصالحها ومآربها ومنافعها والحد من تطلعات الشعوب نحو الحرية والانعتاق من نير الاستبداد بمجرد التفكير في استعادة رقيها وزخمها الحضاري عبر التمسك والدفاع عن وجودها ونشوئها في ميزوبوتاميا أو بلاد ما بين النهرين؟

وفي هذه النقطة بالتحديد يقول القائد عبد الله أوجلان: (لهذه الأراضي دورُها المُحَدِّدُ والمصيريُّ في الانتقالِ إلى مرحلةِ الحضارة، ليس على صعيدِ رَصفِ الأرضيةِ الثقافيةِ فحسب، بل ومن حيث رسمِها ملامحَ الحضارةِ وتكوينِها لمضمونِها أيضاً. فالأراضي التي ازدهرَت عليها المدنيتان التاريخيتان الأَوَّلِيّتان السومريةُ والمصرية، أي ميزوبوتاميا السفلى ووادي النيل السفليّ، تفتقرُ إلى خلفيةٍ ثقافيةٍ عريقة. فمَناخُها لا يَصلحُ حتى لحياةِ مجتمعِ الكلان. من هنا، فهاتان المدنيتان المتصاعدتان قبل خمسِ آلافِ سنة، إنما هي مَدينةٌ بالفضلِ في أرضيتِها الذهنيةِ والمؤسساتيةِ جمعاء إلى تلك الثقافةِ ذاتِ المسارِ البهيِّ المُعَمِّرِ آلافاً من السنين؛ تماماً مثلما هي عليه المدنيةُ الأوروبيةُ في استنادِها إلى الحضارتَين الإسلاميةِ والصينية، وما هي عليه المدنيةُ الأمريكيةُ في ارتكازِها إلى المدنيةِ الأوروبية. لذا، فأوهنُ نقاطِ علمِ التاريخِ والسوسيولوجيا التي لا تزالُ قائمة، تتجسدُ في عجزِه عن التحليلِ الكافي للجوانبِ النظريةِ والعمليةِ للعلاقةِ بين الثقافةِ والمدنية. ولعدمِ تحليلِ الانتقالاتِ الثقافيةِ والحضاريةِ بين ميزوبوتاميا العُليا وميزوبوتاميا السفلى ووادي النيلِ دورُه الهامُّ في ذلك. حيث محالٌ عَلمَنةُ التاريخِ والسوسيولوجيا بالأساليبِ التحليليةِ وحسب. بمعنى آخر، محالٌ عَلمَنةُ السوسيولوجيا، ما لَم يُفهَمْ التاريخُ مثلما حدث، وما لَم يُستَوعبْ المجتمعُ مثلما هو عليه).

فما هو معلوم إن منابع وروافد كِلا النهرين موجودين في كردستان وحتى ما يطلق عليه النهر الدولي بين العراق وسوريا وتركيا  (نهر دجلة) هو في حقيقة الأمر موجود في أراضي كردستان التي تتقاسمها الدول الأربع تماماً كما يتقاسمون نهري دجلة والفرات بموجب اتفاقيات دولية وعلى رأسها اتفاقية قصر شيرين بين الفرس والعثمانيين التي قسمت كردستان بينهما ولاحقاً اتفاقية سايكس بيكو ولوزان التي قسَّمت كردستان بموجبها بين هذه الدول، وفي هذه النقطة بالتحديد يمكن التأكيد على أن الصراع على المياه يزداد كلما اشتدت الأزمات بين هذه الدول أو لنقل بطريقة أخرى: إن استخدام ورقة مياه نهري دجلة والفرات هي لفرض هيمنتها وتكريس احتلالها لميزوبوتاميا (كردستان) ومنع حدوث أي تغير من شأنها المساس بحدود اتفاقية سايكس بيكو وهو ما بات واضحاً من خلال الضغوطات التركية بقطع مياه الفرات أو فتح السدود تارة أخرى للحد من حركة قوات سوريا الديمقراطية كما حدث أثناء الحرب على داعش في الطبقة والرقة وحالياً سعيها في قطع المياه عن دجلة والفرات كورقة ضغط لقطع الدعم عن وحدات حماية الشعب في روج آفا وكذلك ورقة ضغط استراتيجية ضد العراق لحملها على محاربة حزب العمال الكردستاني وحتى أي محاولة لتطلعات الشعب الكردي في جنوب كردستان وهو ما حدث تماماً بعد إجراء الاستفتاء للعودة إلى الاتفاقيات التي أبرمتها هذه الدول الأربع سابقاً (اتفاقية أضنة مثالاً) لمحاربة الشعب الكردي.

هنا قد يتساءل القارئ: إن تركيا بدأت فعلياً ببناء سد أليسا أو ما يطلق عليه سد النهضة وكذلك إيران من خلال قطع روافد نهر الزاب؟!

قد يبدو للوهلة الأولى هذا التساؤل منطقياً، ولكن بالعودة إلى الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وخاصة سوريا والعراق نجد أن الصراع بات محصوراً بين تركيا وإيران على الرغم من تبعيتهما لمحاور دولية؛ أمريكا وروسيا والتي هي الأخرى في صراع مصالح ونفوذ في ظل غياب شبه تام لأي دور عربي في كل من سوريا والعراق وفي خضم هذه المعمعة والتشابك المتداخل للمصالح والنفوذ نجد أن منطقة ميزوبوتاميا (كردستان) هي التي تتقدم قائمة هذا الصراع الدولي والإقليمي والتي تحاول الدول المحتلة لكردستان منع حدوث أي تغير على خرائط سايكس بيكو بل على العكس تحاول اغتيال ووأد حضارة بلاد ما بين النهرين أو كردستان من خلال الصهر والإبادة حيث يشكل الشعب الكردي مثالاً صارخاً في هذا السياق كونه الضحية الأكبر للصَّهرِ في الشرق الأوسط والذي بات ملامحه واضحاً للعيان في سياسة البعث في كل من سوريا والعراق وكذلك في ما شهدناه من دمار في مدن شمال كردستان على يد الطورانية التركية  وإعدامات بحق الشعب الكردي في إيران وما نشهده مؤخراً في مدينة عفرين في أكبر عملية تغيير ديمغرافي يتعرض له الشعب الكردي.

فالإصرار على الكردايتية يعني تحمل سياق الألم والمعاناة التي تبدأ بالتخبط في البطالة لتصل لحد التطهير العرقي والإبادة الجماعية؛ فأينما كانت المهارات الكردية توصد جميع الأبواب أمامها جراء السياسات التي تتبعها الدولة القومية المسيطرة؛ فإما أن يتم اختيار الاستسلام طوعاً حتى تفتح له الأبواب المؤقتة لحين انتهاء دوره الموكل إليه، أو أن يعرف كيف يتحمل كافة أنواع البلاء وشتى الكوارث التي ستحل به لتصل لدرجة التطهير والإبادة في حال اختار المقاومة ولم يستسلم.

إضافة لما تم ذكره من سياسات هذه الدول تجاه الشعب الكردي وخاصة تركيا واستخدامها لورقة قطع مياه دجلة والفرات فإن لها بعدها الثقافي والحضاري المتعلق بنشوء وتكوين الشعب الكردي حيث تسعى حكومة العدالة والتنمية التي يترأسها الطاغي أردوغان إلى وأده واغتياله وإزالته من التاريخ إذ في حال اكتمال بناء سد النهضة أو أليسا سيتم إزالة  أكثر من 300 موقع أثري وتراثي ومدن يسكنها الشعب الكردي والتي لها قيمة حضارية وتاريخية وتراثية وثقافية عظيمة وسيعرّضها للغرق والتدمير على سبيل المثال مدينة (حسن كيف) التراثية والتي يعود تاريخها إلى أكثر من عشرة آلاف سنة ولربما الغوص في تاريخ الوجود الكردي في منطقة الهلال الخصيب تشكل أعظم فارقة في تاريخ البشرية التي لم يتم تدوينها بشكلها الصحيح والحقيقي وذلك لأسباب سياسية وجغرافية وتاريخية تتعلق بنشوئهم كشعب مضطهد ومحروم من ثقافته ورقيِّه الحضاري بحيث تم إرغَامه على البقاءِ على هامشِ الحياة. حيث يمكننا القول في هذا الصدد إن الاكتشافات الأثرية والمستحاثات التاريخية والبحوثُ الأخيرة تُشير إلى أنّ ظهور الهوموسابيانس (جَدَّ الإنسانِ الحاليّ) خلالَ الثلاثِ مائةِ ألفِ سنةً الأخيرة من تاريخِه على وجه التقريب وارتقاءَه وانتشاره في المعمورة إلى وقتنا الحاضر؛ قد حَصَلَ وتكاثَف في الهلال الخصيب (في الأراضي التي تَشغلُ كردستان الحاليةُ مركزَها، والتي تَقطنها غالبيةُ الكرد). ومرحلةُ الهوموسابيانس تزامَنَت مع ولادةِ اللغةِ الرمزيةِ من تاريخِ النوعِ البشري الذي شخص عمره بأكثر من ثلاث مائة ألف عام والتي احتَلَّت منزلةَ الصدارةِ تماشياً مع ارتقاء اللغة الرمزية والتي تقتضي تعاطياً أكثر جذرية للتاريخِ الساري في الهلالِ الخصيب؛ هذا بالإضافة إلى اكتشاف الزراعة  وحدوث الثورةِ الزراعيةِ النيوليتية، ومع الارتقاء والتطور الفكري للهوموسابيانس حدث الانتقالَ إلى مجتمعِ الزراعةِ وبناء القرية والتي تعتبر من أكثر الثوراتِ جذريةً وغوراً في تاريخِ البشرية والتي كان منشأها ميزوبوتاميا أو كردستان حالياً.

كما أن بالإمكان سوق أمثلة وشواهد على عراقة كردستان منبع دجلة والفرات من خلال قصة الطوفان العظيم في الكتب المقدسة وعلى رأسها القرآن الكريم ورسو سفينة نوح أبو البشرية الثاني على سفوح جبل جودي ” ربطاً بما ورد ذكره في الكتب الإسلامية –سورة هود ((43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ”.

جبل جودي الذي لم يقطنه أحد سوى الشعب الكردي؛ من هنا فإن سعي الدول المحتلة لكردستان وخاصة تركيا من وأد حضارة شعوب دجلة والفرات ينبع من هذا الإرث التاريخي والحضاري العظيم لقاطنيها وانتهاج سياسة الإبادة الثقافية والحضارية وصولاً للتطهير العرقي باتباع سياسة التغيير الديمغرافي والجغرافي القسري من خلال مشاريع تركيا التدميرية للمعالم الأثرية لهذه الشعوب الأصيلة سواء من خلال ربيبتها داعش والنصرة وأخواتها في ما يسمى بدرع الفرات (لغم نسف الفرات) أو من خلال سياساتها الاستعمارية بتدمير المعالم الأثرية عبر قصفها لهذه المعالم كما حدث في عفرين؛ أو بإقامة السدود على منابع دجلة والفرات لإغراق حضارات عمرها يناهز مئات آلاف السنين وجعلها نسياً منسيا وكذلك تهجير الشعوب من خلال تنشيف نهري دجلة والفرات وتحويل مسارهما لتتحول ضفافهما مع مرور الزمن إلى صحراء قاحلة وعلى وجه التحديد سوريا والعراق.

إعداد: ياسر خلف

زر الذهاب إلى الأعلى