ثقافةمانشيت

آفاشين المياه الزرقاء

من ملاحم مقاومة عفرين
” الروح الرفاقية إحدى أسس انتصارنا‘
بقيت متيقظة عدة أيام حفاظاً على جثمان رفيقها الشهيد، وثقتها العميقة برفاقها أوصلتها إلى بر الأمان، وقطعت على نفسها عهداً بتحرير تراب عفرين من براثن الاحتلال، هذا ما قالته المقاتلة آفاشين باصيا.
عندما تختار المرأة في القرن الواحد والعشرين وفي الشرق الأوسط أن تسطر الملاحم بنفسها، تكون المعادلة الصعبة للعقول الذكورية حين خروج المرأة من قوقعة الوصاية إلى منابر الكفاح وحمل السلاح في وجه الغزاة ومغتصبي الوطن والأبدان الطاهرة.
عرفت المرأة الكردية وسطع اسمها في المحافل الدولية في هذا القرن، وأغنت تاريخها بمئات البطولات، تقديساً لأناملها الناعمة بالضغط على الزناد دفاعاً عن وجودها وكيانها.
آفاشين باصيا من شابات مقاطعة عفرين، اختارت أن تنخرط في صفوف وحدات حماية المرأة، وتكون إحدى المدافعات عن حقوقهن وكرامتهن، ضد محاولات احتلال مدينتها لتسطر ملحمتها بتضحياتها وروحها الفدائية، روت لنا آفاشين عملية تطهير تل كفري كار من جيش الاحتلال التركي ومرتزقته، وتحدثت عن كيفية إصابتها بطلقة في جسدها.

تنفيذ العملية والإصابة

تقول آفاشين: “في ناحية راجو بعد سيطرة جيش الاحتلال التركي ومرتزقته بمساندة الطيران الحربي والأسلحة الثقيلة على تل كفري كر، وبات دخولهم إلى القرى المجاورة وشيكاً. قررنا القيام بعملية نوعية أنا والرفيق دليل المقاتل في وحدات حماية الشعب في ساعات العصر عن طريق الالتفاف حول التلة ومباغتة العدو من الخلف، لتنظيف التلة منهم.
وأثناء محاولتنا الوصول إلى التلة مررنا بقرية قريبة منها، وكان علينا اجتياز مسافة عشرة أمتار للوصول إلى الطرف الآخر من الطريق. قمت بمحاولة التسلل، ثم باشرت بالركض وتجاوزت عدة بيوت حيث كان الرفيق دليل يتابعني، ومع الاقتراب من التلة زاد جيش الاحتلال ومرتزقته عمليات القصف بأنواع مختلفة من الأسلحة، ثم انتظرنا قليلاً إلى حين توقف القصف.
بعدها أكملنا مسيرنا، وخرجت للانطلاق أولاً ليلحقني الرفيق دليل، وأثناء قطعي للطريق الترابي أصبت بطلقة القناص في خاصرتي اخترقت بطني فأردتني على الأرض وغبت عن الوعي.
لم أدرك كم من الوقت مر وأنا فاقدة الوعي، فتحت عيناي لأرى الرفيق دليل على المقربة مني، وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة. حاولت الوصول إليه إلا أنني لم أستطع الحراك بتاتاً، فلم أدرك بعد مكان إصابتي، أصبت بحالة من الذهول والصدمة، فهذه المرة الأولى التي أصيب فيها خلال المعركة، وإلى جانبي رفيق الآخر مصاب.
بقيت مذهولة ومصدومة لما أنا عليه، فلم أدرك أين أنا، وما الذي يحيط بنا، دخلت إلى حالة من الفراغ الذهني بما يشبه الضياع، وأنا مستلقية على ظهري دون حراك إلى أن استعدت قواي، عندما بدأ الليل يسدل ستاره مع رياح شباط الباردة، وأصوات الطيران الحربي والاستطلاع الذي لم يفارق تحليقه فوقنا.

بدأت أستعيد قواي مع سماع أصوات الطيران الحربي والاستطلاع التي كانت تحوم فوق رأسي، حاولت الوصول إلى الرفيق دليل زحفاً، عندما اقتربت من جثمان الرفيق دليل، تفحصت مكان إصابته، أدركت أن الرفيق دليل اندفع على إثر إصابتي بطلقة قناصة أخرى، لكي ينقذني إلا أن رصاصة العدو، كانت الأقرب إليه.

الشهيد دليل وصفاته

حاولت أن أغمض عيني دليل عن هذه الدنيا إلا أن عيناه لم تستجب لي، وكأن عيناه أرادت أن تشهد ما يسطره زملائه من المقاومة والبسالة، في استعادة السيطرة على تلة كفري كر.
عدت بذاكرتي إلى الوراء لأستعيد ذكرياتي مع الرفيق دليل، عندما التقيت به لأول مرة، كان ذلك منذ حوالي السنة عندما جاء إلى الكتيبة بصفته قائداً للكتيبة، عرف بحبه وتمسكه بالقضية ومخلصٌ لمبادئه الثورية، فكانت تترجم ثوريته من خلال إصراره على تنفيذ المهام الملقاة على عاتقه مهما اعترضته المصاعب (إصراره على دحر الاحتلال التركي في التلة) كان متواضعاً ومحباً للروح الرفاقية الجماعية، ويساعد أفراد الكتيبة عند الحاجة، كان محبوباً وعرف بكثرة نقاشاته التي كانت تتركز على مفهوم الثورية وحب الوطن والتعلق بالمبادئ والأخلاق الثورية.

التواصل مع الرفاق

كان الفجر يبزغ وطائرات العدو ما تزال تحوم في السماء، لم أتمكن من استعمال اتصال للتواصل مع الرفاق، كي لا يحدد طيران العدو مكاني، فقمت بربط جراحي بشالي واحتضنت سلاحي، وكان بجانبي جثمان الرفيق دليل بقيتُ متيقظة طوال الليل، لأحافظ على سلامة جثمان الرفيق دليل وأحميه من براثن العدو والحيوانات البرية.
كل ما كان يتبادر إلى ذهني في تلك اللحظات، هو أنني يجب أن أمسح دموعي، وأتيقظ لحماية جثمان الرفيق الدليل ونفسي، وألا ألفت انتباه طيران العدو الذي كان يبعد عني بضعة مئات الأمتار فقط.
أردت الصمود والدفاع إلى آخر دقيقة، لم أقبل بالاستسلام وترك مصيري ومصير جثمان دليل للقدر والعدو، انتظرت الفرصة المناسبة لأجري مكالمتي حصلت عليها في اليوم التالي عند العصر، عندما توقف طيران العدو عن التحليق، فقمت بإجراء مكالمة مع الرفاق وأخبرتهم عن إصابتي واستشهاد الرفيق دليل، عندها أجاب الرفاق أنهم على مقربة مني، وينتظرون الفرصة المناسبة لكي يخرجوننا من القرية، وأنهم سيعودون لأنني ما زلت على قيد الحياة، ثم حيّاني على مقاومتي وصمودي، وزودوني ببعض الارشادات العسكرية والطبية حتى يتمكنوا من إنقاذنا.

ثقتها برفاقها أوصلتها إلى بر الأمان

ومرت ليلة أخرى على صمودي أمام برد الليل وتحملي لألم جراحي الذي بدأ يتغذى على قواي الجسدية، لم أرغب في النوم، طالما قررت الحفاظ على سلامة جثمان الشهيد دليل، واستمددت منه القوة والعزيمة، لذا كان لا بد عليّ الصمود.
في اليوم التالي سمعت صوتاً ينادي باسمي من بعيد، أدركت حينها أنهم رفاقي جاؤوا لإنقاذي، فبادرت بمناداتهم أيضاً ليتمكنوا من تحديد مكاني، ماهي إلا لحظات حتى أبصرت الرفاق أمامي، فحملوني وحملوا جثمان الرفيق الدليل إلى خارج القرية وقاموا بإسعافي.
اعتراني شعور لا يوصف من السعادة والسرور من ناحية، وشعور بالحزن على الرفيق دليل من ناحية أخرى، لم يتخلى عني الرفاق وجاؤوا في ظروف هددت حياتهم بالخطر في سبيل إنقاذنا، هذه هي الروح الرفاقية والفدائية التي لم يراودني الشك حيالها يوماً، فالروح الفدائية للرفاق في سبيل حماية بعضهم البعض أحد أهم مبادئنا الثورية.
آفاشين باصيا التي لم تغب الابتسامة عن وجهها طيلة فترة سرد قصتها، كتبت صفحة جديدة من صفحات مقاومة وحدات حماية المرأة بصمودها وثقتها برفاقها في سبيل الوصول إلى النصر، ودحر الطامعين بتدنيس الوطن ولتبقى قصتها تروى للأجيال القادمة.

رواية المقاتلة آفاشين.

زر الذهاب إلى الأعلى