دراسات

مشروع يُطْلَقُ النار عليه من اتجاهين. من ثقافة الدسكرة إلى فضاء الديمقراطية.

sihanok-dibo سيهانوك ديبو – ربيع الشعوب في الشرق الأوسط لم يتحول بكليته إلى خريف؛ والحراك الثوري السوري – كحالة تعبيرية ومعيارية عن الربيع – أفضى إلى ثورة متكاملة في القيم وإنتاج قيم متجددة بالرغم من فشله الذريع على المنحى العملياتي أو النتائج المعوِّلة على الحراك نفسه (التغيير). لا تناقض علمي فيما ذكرناه؛ إذْ ليس من الضرورة أن تُفضي كل الانتفاضات إلى نتائج ناجحة ملموسة فورية؛ والتاريخ المتخم بالانتفاضات غير الناجحة بمستواها العملي ووفق نتائجها غير المتحققة؛ دليل ذلك: من كومونة باريس ومرورا بانتفاضة الشيخ سعيد بيران وانتهاءً ما نعيشه الآن من حبو تعرض له عملاق الانتفاضات في الشرق، ونجاح أجزاء منها وفشل أجزاء كثيرة أخرى، وعلى العكس تماما يمكن لانتفاضة تفشل أن تؤسس لثورة ثقافية ناجحة تلحقها فتؤسس – فيما بعد- ثورة جديدة ناجحة بالضرورة. وما حدث في سوريا طيلة سنواتها الأربعة؛ أفرغت كل الأطر البالية لحالات الثوقفة والتسطيح الثقافوي المحسوبة يالثقافي؛ ومن هم معتبرين في خانة الطبقة- المثقف، لسبب مغيّب أنه غير مثقف ولا يحمل مشروعا ثقافيا نهضويا؛ فأي فكر لا يؤسس لمجتمع سياسي أخلاقي من الضرورة أن يندرج تحت فهم اللا الثقافة أو ضد الثقافة، ولأجل ذلك فإن ثقافوي الاتجاهات مارسوا التسوس بدلا من السياسة ؛ يبدو ذلك جليّاً حينما قام أكراد النصرة وعربها بتشخيص المسألة السياسية في سوريا معتبرين أن الحالات الطارئة: داعش والنصرة هي المحركة الأساس للتغيير، وقد صدقهم الكثيرين وتصادقوا فيما بعد معه؛ فلم يدركوا بأن الثورة ليست ثأرا، والمقاومة ليست انتقاما. هنا نشهد حالة يمكن تسميتها بموت المثقف التقليدي وظهور  الثقافة الجديدة والمثقفين الجدد من رحم حالة الفوضى الحالية بانتظام شديد؛ على اعتبار أن للفوضى نظام خاص لا تلاحظه العيون الرتيبة. وأما المثال الموضح لا يعني أن غيرهم من المتثاقفين في مأمن عن هذا التصور أو النتيجة (شرقياً- مشرقياً-سوريا- كرديا)، إذْ تتعدى كي تكون حالة شبه عامّة. حينما يكتب في غضون ثلاثة أيام كاتب ناقد بقامة حازم صاغية مقالين ويصور المشهد التغييري في المشرق على أنه إذلال السنيّة العربية أو أن حرباً طائفية مستعرة بين السنة والشيعة في المشرق ومنها سوريا، وحينما يسمي من ذكرهم ومن ضمنهم الكرد بأنهم القوة التأديبية للسنة؛ ما الذي يختلف في مثل هذا الخطاب عن خطاب النصرة نفسها أو داعش نفسه؟ النسبية تنطبق على جميع الظواهر المرتبطة بالإنسان؛ وهو غير معني بوقائع ضد الإنسانية كما حال داعش والنصرة. وأن ضخ خطاب الكراهية في هذه الأوقات بمثابة ترسيخ ما عجزت عنه الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط وبالأخص في مشرقه من الحجز المجتمعي؛ سوريا لوحدها مثالاً جغرافياً للحجز المجتمعي القومي الأثني من ناحية ومن ناحية أخرى الطائفي المذهبي العُقَدي.

إن التعريف البسيط للمشكلة يحيل الباحث مباشرة للخلاص منها إلى الحل؛ وهذا ما ينطبق بخصوص الظاهرة المجتمعية أو حيال المجتمع الذي هو عبارة عن مجموعات تشكله، والأفراد بقدر ما يمتلكون الحقيقة متبوعين إلى قوة المجتمع، وهذا يحيلنا إلى الحل التعددي المُكامِل لقوة الوحدة، وأن القوموي داء الشرق الكبير؛ بدواء واحد يكمن في التعدد الموجود حقيقة في الأصول التي شكّلت الظاهرة الاجتماعية اليوم: الدولة، وأن الدولة الوطنية ليست سوى إدارات ذاتية أو فيدراليات ديمقراطية تحقق كونفيدرالية الشعوب بعد أن تحل محل الدولة التي يتمسك بها السلطويون وقد حوّلوها إلى إله أرضي واجب العبادة. من الخطأ تصوير سقوط النظام البعثي في العراق 2003 بأنه سقوط الصدّامية السنية. أو تصوير عدم سقوط النظام السوري بأنه دعم دولي لبقاء غير السني لصالح الشيعي، وإن إعادة انتاج النظام المركزي في سوريا لصالح الشيعة ضد السنة، أو أن فشل السلطة الاستبدادية للعدالة والتنمية في تركيا ووجوب أفولها ليس على أنه معاداة للسنية التركية؛ إنما بسبب تعطليه للأمن والاستقرار المجتمعي في تركيا وعموم الشرق الأوسط ومعاداته الصريحة للشعوب في تركيا ومن بينها بشكل واضح الشعب الكردي وتبعات هذه الحرب الهدّامة عليه. كما يجب النظر إلى النظام الاستبدادي في إيران بأنه نظام خليط بين القومية الفارسية والتشييع الديني، وما  لبوس التشييّع كواقعة اجتماعية محلية تم استخدامها اليوم في لبوس القوموية الفارسية، وأن النظام في إيران يمارس السمة التاريخية التي يتصفون بها في أنهم يحاولون مزج بين الدولة التاريخية التي عرفوها قديماً وبين الحداثة، أي مزج بين الأصول وتغييب المشاكل القديمة فيها والجديدة أي مشكلة التعدد بالنسبة لأي نظام نمطي.

أعتقد أنه من الإنصاف إلى درجة كبيرة لو قيل بأن الكرد وحدهم لم تكن لهم مشكلة وجودية مع الظواهر الفكرية/ السياسية التي وجدت في تاريخهم ووجدوا أنفسهم موجودين فيها –لاحقاً- بدور كبير، في أنهم تعاملوا مع الهويات المستجدة بمرونة معقولة؛ سواء كانت الهوية الدينية أو الهوية الجغرافية كما الهويات الوطنية الجغرافية المفروضة على شعوب الشرق الأوسط ومن ضمنهم الكرد بعد سايكس بيكو. فدافعوا عن سوريا مثل مكوناتها الآخرين وأسسوها سوية؛ وأيضاً كما الحال في المشاركة الحاسمة لتأسيس تركيا والعراق وفي إيران كقوة أساسية في الثورة الإيرانية من العام 1979. وكم سيبدو تفكيراً هدّاماً ورؤية قاصرة لو يتم توصيف غير ذلك كما ورد في مقال كتبه غسان الإمام بعنوان أمريكا الكردية وبالحرف يقول فيها: (ما من شعب كما الأكراد عاش وتزاوج واستعرب مع العرب وبالذات مع السوريين… وناضلت الزعماء الأكراد تحت راية العروبة كما حسني الزعيم والشيشكلي و….. وخالد بكداش…) ومن ثم يصف القادة الكرد الذي قادوا حركة النضال الكردستاني رافضين الاستعراب والتتريك والتفريس وفي الوقت نفسه مطالبين بالوطنية وبالعقد الذي اتفقوا عليه منطلقين من حقوق الشعوب في تقرير مصيرهم وصولاً إلى حقهم في الاستقلال التام الكلي؛ بأنهم أكراد أمريكا.

الشاعر الفلسطيني معين بسيسو يختزل هذه المعضلة بقوله: انتصر صلاح الدين فكان بطلا عربيا؛ ماذا لو هزم صلاح الدين؟ لكان جاسوساً كردياً.

الدسكرة الديمقراطية

لكلمة الدسكرة معان مختلفة فقد تكون قرية. وقد تكون صومعة الناسك. وقد تكون أرض مستوية.  وأخيراً بناء ضخم حوله بيوت يكون فيها الشراب والملاهي يتخذها الملوك (معجم الرائد اللغوي). أما المتتبع لتواتر ورودها فهي بالأغلب دالة على الأرض الواسعة المستوية ويقام فيها صومعة للناسك. وحاجة شعوب الشرق إلى تأسيس مشترك لمثلها أو مثيلتها والبناء القويم حوله سيكون من أشد الأمور تكريساً لمسائل الخلاص من الأزمات التي تلاحقهم من صنيعتهم في الدرجة الأولى. وفي روج آفا- شمال سوريا تظهر حالة مؤسسة لا يود المصدومين رؤيته وليس للاستعلائيين أية قدرة ورغبة للتعرف إليه؛ بعكس القوى الديمقراطية ومن قبلهم القوى المجتمعية التي تؤسس في البناء وتغنيه على الدوام مثلما تم رصده في حالة التجسيد العلمي العملي لفكر نظرية الأمة الديمقراطية وخطوة إعلان النظام الفيدرالي الديمقراطي لروج آفا- شمال سوريا.

إذا أمعنّا النظر في كينونات هذه الأرض البيئية نراها على أشدها من إتيّان للحل، وكأنها الحل الكلي نفسه المُعِدِّ بإسهاب في حيثيات نشوئها، إذاً لا يمكن النظر إلى هذه الصراعات بأنها فقط الموجودة، حال ذلك حال الديالكتيك الصائر في الفكرة ونقيضها والمفضي إلى الطباق (الحل المتقدم) يقول ذلك الفيلسوف أوجلان. وإذا كان الحل ليس في أية جهة من جهات الصراع السني الشيعي وغير متعلقة بالنتائج التي لن تفضي إلاّ إلى وجودهما –مكسورين-مرة أخرى، من حيث إنها الحال نفسه في مرحلة الصراع على السلطة ما بعد مرحلة الإسلام المحمدي مروراً بجالديران 1516 (صورة متكاملة مستنسخة) وصولاً إلى اليوم. وإذا كان حديث الصراع وضوحاً فإن حديث الحل يقابله في الوضوح أيضاً ويزيد عليه بجرعات الأمل ذي المصدر الذي ملّ من هذه التكرارات المدمرة، الحل كما حال الديالكتيك متمثل بالطريق الثالث المتمثل بدوره أنه ليس مع طرفي الصراع إنما مع الثالث الأشمل، ويبقى الحل موصوفاً في مجمله عبر نظرية مؤسسة خلافية مع مدراس التنميط والأمم النمطية، الأمة العربية على خطأ لأنها متقوقعة كما حال الأمة التركية والأمة الفارسية ودعاة الأمة الكردية؛ الوشائج المتداخلة أساساً في هذه الأمم لا تقبل نشوءً أحادياً؛ وإن صير؛ فعلى حساب إبادة أمم أخرى موجودة، والأمة الإسلامية والأمة المسيحية والأمة اليهودية يجب رفضها على الدوام لسببين رئيسين وآخر خليط توفيقي منهما:

– فكرة الأمم القومية جاءت في الأساس على يد الثورة الفرنسية كحالة مخففة عن فشل سلطة الكنيسة في أوربا والتحارب بين الطوائف، وعملية الرجوع إليها يعني قلبٌ للتاريخ رأساً على عقب، وبالرغم من أنه كان بمثابة حلٍ سحري سريع وعاجلاً لحالة المرض التي سبقته في أوربا والغرب؛ فإنه غريب عن الشرق وتم فرضه عليه وأثبتت الوقائع أنه عصيّ على الهضم ولا يمكن الأخذ به.

-الأمم الدينية تفضي وفق عوامل السلطة إلى الطرقية والعقدية؛ فإذا كانت في الإسلام الحديث مجموعة من الطرق ومجموعة من الطوائف، وإذا كانت في المسيحية مجموعة من الطوائف ومجموعة مما يخصصها كدين، وكذلك الحال حيال اليهودية، فيعني بأن الصراع – في أول استتباب- ينتقل فوراً ودون إذن مسبق إلى التصارع فيما بين الملة الواحدة كما حالنا الحالي تحديداً.

– فكيف إذا تم امتزاج الدين بالقومية وامتزاج القوموية بالطائفية؛ تفسير لا أخلاقي لأحوالنا الحالية والمستقبلية في العموم.

يكمن الحل في الأمة الديمقراطية التي تظهر على طرف مقابل من هذه الصراعات التدميرية وتظهر بمظهر البناء المجتمعي الكلي –خاصة- في الشرق الأوسط وخاصة إن هدف الأمة الديمقراطية هو تحقيق الشرق الأوسط الديمقراطي، والنضال من أجل ذلك هو واجب إنساني قبل أي شيء. والأمة الديمقراطية بوصفها تعريفاً يعبر عن العصرانية الديمقراطية، وأن قبولها لا يعني دحض الاشتراكية ولا قبولها بشكل دوغمائي مقولب، بل يسهب في تحليلها كتجربة قوية حدثت ولها صلب قويم مناهض لحقيقة من عارضتها من النُظم العالمية، وذلك وفق مشروعها التي تمثل جوهر الحداثة الديمقراطية. والأمة الديمقراطية بوصفها لا نمطية تؤلف بين مجموع الثقافات في الشرق الأوسط إنْ كانت قومية أم دينية أم ظواهر اجتماعية أم وقائع اجتماعية، والجميع يقبل بالجميع والجميع مع الجميع. وما من نظرية اجتماعية في الشرق والمشرق الأوسط غير نظرية الأمة الديمقراطية تستطيع توحيد صفوف المجتمعية وإحيائها نحو هدف الكون المطلق: الحرية.

مشروع واحد متمثل بالأمة الديمقراطية ويتم إطلاق النار عليه من جهتين؛ أولاهما متمثل بالطائفي وثانيهما من القوموي. وهذا يمكن في الوقت نفسه النظر إلى مطلقي النيران بأنهما  دليلين كبيرين على القوة والشجاعة التي تتحلى بها الأمة الديمقراطية في الأساس.

زر الذهاب إلى الأعلى