ثقافة

يلماز غوني… الأب الروحي للسينما الكردية

yelmaz goneyفي ذكرى رحيل السنيمائي الكردي العالمي “يلماز غوني” والذي توفي في الـ (9) من أيلول سنة 1984 في فرنسا ودفن فيها، نود أن نستعرض بعض المحطات التاريخية لمسيرة غوني الشخصية والسينمائية، غوني والملقب بالأب الروحي للسينما الكردية, عاش حياته يجوب السجون وأدوار السينما حيث كان النظام التركي يلقي القبض عليه دائماً ويزجه في السجون, خاصةً بعد أن ينال جائزة ٍما أو ينجز عملاً أدبياً. علماً أن  الدولة التركية كانت تشارك المهرجانات السينمائية من خلال أفلام غوني، ولد الروائي والممثل والمخرج السنيمائي يلماز بوتون في نيسان سنة ١٩٣٧ في قرية آينجة التابعة  لمدينة أضنا, وسط عائلة فقيرة الحال كان الأب فيها يمثل السلطة الإلهية بالنسبة لمفهوم العشيرة والعائلة في ذاك الحين، وشاهد مقتل والده سنة  ١٩٥٨.

بدأ مشواره مع الكتابة وإصدار النشرات ليدخل السجن ولأول مرة أثر نشره لقصة قصيرة، قضى في السجن ١٨ شهراً ثم نفي إلى قونية، ليبدأ مع الروايات وكتابة السيناريو ليدخل السجن مرة أخرى أثر إصداره لسيناريو (زهرة الصحراء) حيث اتهم بالترويج للأفكار اليسارية.

وبدأ رحلته مع السينما في ١٩٥٧ كمساعد مخرج لفلم (أبناء هذا البلد) ومن بعدها اشتغل كممثل في ٤٠٠ عمل سينمائي منها ١١٠ فلماً بدور البطولة وكان ملقباً بـ (السلطان القبيح) كما أخرج ١٨ فيلماً سينمائياً.

زجه في السجن كما حصل معه حين أخرج فلم (غداً هو اليوم الأخير).

نال يلماز غوني ١٧ جائزة سينمائية ممثلاً ومخرجاً، لكن أهم جوائزه بالطبع هو حصوله على السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فلمه الشهير (الطريق).هذا الفلم السياسي الذي كان يتابع قسماً من أعماله وهو في السجن ثم أكمله حين هرب من السجن ليتوجه إلى فرنسا ويؤسس مع زملائه المعهد الكردي في باريس، وكان آخر أعماله هو الفلم السينمائي (الجدار).

الحقيقة أن يلماز غوني يعتبر أسطورة حقيقية، هو الذي طلع من الحضيض تماماً، من حضيض بؤس الفلاحين المغامرين والمقامرين بحياتهم في المناطق الزراعية المحيطة بأضنة في الجنوب التركي، ليصبح خلال فترة قياسية من الزمن واحداً من السينمائيين الأكثر حضوراً في السينما الأوروبية. وبفضل ماذا؟ بفضل أفلام تقول الحكاية انه أدار إخراج الأفضل من بينها وهو في زنزانته في السجن.

يقول عنه أحد السينمائيين والكتاب والذي كتب عنه في صحيفة الحياة  “هامشيون غيروا مفاهيم الفن السابع ورحلوا معزولين أفلام للنضال وأساطير تفوق طاقة فنان واحد”.

ويدعى إيليا كازان حين تشاهد هذا الفيلم “الأمل” تشعر من فورك أن النظرة التي يلقيها مخرجه على البشر وعلى شعبه، نظرة صادقة، حقيقية ومتكاملة إلى درجة أنني حين كنت أتابع مَشاهد الفيلم شعرت بقلق شديد على مصير الرجل والعائلة اللذين كنت أشاهدهما على الشاشة، بل أخذني القلق حتى بعد نهاية الفيلم.

يقول غوني في أحد كتاباته القضية الكردية قضية في غاية الصعوبة والتعقيد، ذات يوم سأحقق فيلماً أحكي فيه حقاً حكاية نضال شعب من أجل ولادته أو بعثه، أما اليوم فالأمر عسير كما إن القضية نفسها عسيرة، ومع هذا على المرء أن يحكي ذات يوم كيف تم تشتيت الشعب الكردي وتقسيمه، وما هي الآفاق المستقبلية المطروحة أمامه. على أي حال اعتقد إن من الأمور الشديدة الصعوبة الحديث عن مثل هذا بموضوعية، فالتاريخ ليس حافلاً بالانتصارات فقط، بل هو حافلٌ كذلك بالهزائم والأخطاء وخيبات الأمل.

غوني الذي سجل تاريخ شعبٍ على جدران سجون الأنظمة الفاشية في تركيا, وسجل في تاريخها الأسود أكثر من ثمانية عشر عاماً داخل سجونها الحاقدة على الكرد.

 من الواقع القاسي والمرير لملايين الفقراء والمضطهدين الكرد في شمال كردستان, وجشع وخنوع الإقطاعيين والاغوات والبيكوات والباشوات ورجال الدين الجهلاء والحمقى، كان يلمازغوني لهذا عندما تفتحت عينيه لم يشاهد سوى القهر والعذاب والحرمان والاضطهاد, وحياة قاهرة من البؤس والبرد والجهل. لهذا لم ينسى أبداً طفولته التي لم يشاهد منها شيء كما لم يشاهد آلاف غيره من أطفال كردستان الأطفال الفقراء، غوني لم ينسى ممات صديق طفولته (سلو) الذي مات نتيجة الفقر والعوز.

مارس يلماز أكثر من مهنة ليكسب قوت عيشه ومصروفاً لدراسته, حيث أكمل الثانوية وسجل في جامعة إسطنبول في كلية الاقتصاد, وفي إسطنبول كان الثوري والفنان المبدع، في إسطنبول تبلورت مفاهيم غوني الثورية والذي كان بطبيعته الثورية كباقي أبناء جلدته حيث يدل على ذلك رفضه الطفولي في مرحلة بسيطة من حياته لأشكال التعسف الاجتماعي ضد الفقراء، ويدل اسمه على ذلك، فـ (يلماز) يعني (القاسي) ولقبه كان بوتون لكنه أختار غوني ويعني (المسكين أو الفقير).

وفي التحام القوة بالبساطة انطلق يلماز كوناي موهبة إبداعية وإصبعاً ثورياً يشير إلى عيني عدوه في عزمٍ لا يهاب، كسبب لكل آلام شعبه وفقره واضطهاده، لهذا تعلق به الكثير القريب والبعيد، وكان صوره واسمه هو الأكثر ظهوراً في شوارع تركيا وبيوتها الفقيرة, وفي صالات عرض الأفلام السينمائية، إصدر عام ١٩٥٨ مجلتين هما بوران ودوروك وكان يساهم في تحرير جريدة الحائط الجامعية، لكن ذلك لم يستمر طويلاً  ولأسباب معروفة دوماً، كتب قصته الأولى الأعناق الملوية ١٩٦١ وكانت محطة ليزج في إحدى السجون بتهمة ( المثقف الأحمر ).

لم يكن السجن ليلماز جدران مغلقة بل عالم جديد من العمل واختراق الذات وانفعال الفكر والقهر والخيال والحب, ليكتب من عالمه أجمل ملاحمه فقد كتب رائعته (صالبا) عام ١٩٧٣ من سجن السليمة, والتي طبعت عدة مرات وبلغاتٍ عديدة، وكتب رواية (معادلات مع ثلاث غرباء) وكتب مئات القصائد والمقالات, كما كتب سيناريوهات أكثر من فيلم داخل السجن وكان أكثرها شهرة فيلم (الرفيق. القطيع وآخرها فيلم يول، الطريق).

وكان أول عمل له مع المخرج التركي التقدمي عاطف يلماز عام ١٩٥٨ ومنها بدأ يلماز يكتب ويمثل ويخرج حيث ظهر في أول عمل فني عام ١٩٥٨ في فيلم (أبناء هذا الوطن).

يلماز والذي كان محاصراً من فاشية العسكر والرقيب لفكره وعمله، وقد عمل يلماز في أولى حياته أفلام تجاريه فاقت المائة، وأصبح من خلالها البطل الأول عند الجماهير والبطل الأكثر طلباً من منتجي الأفلام السينمائية, فمن يتعاقد مع يلماز غوني على فيلم فهذا يعني ربحاً أكيداً، ومن أفلام تلك المرحلة (النهر الأحمر، النعجة السوداء، القاتل الضحية، ملك الملوك…) وغيرها ومن خلال ذلك تحقق غوني الأرضية القوية من الشهرة وشباك التذاكر والرأسمال الممكن ليستطيع أن يحقق ما يريد ويفرض نفسه على المنتجين.

وكان عام ١٩٦٦ تحولاً كبيراً في حياة كوناي حيث ظهرت له أفلام من نوعٍ جديد أرسى من خلالها مدرسة جديدة للسينما في تركيا, والتي أخذت بعداً عالمياً وداخلياً وسرعان ما تأثر بها المنتجين الكبار, فأخرج (سيد خان، الذئاب الجائعة، رجل قبيح…) وكانت باكورة أعماله في تلك المرحلة فيلم (الأمل) الذي أوصله إلى أكبر المهرجانات العالمية حيث نال (17) جائزة على فيلمه, وجذب إليه العيون والسمعة القوية بين فناني العالم.

كانت مقولة يلماز في تلك الفترة (أنا لا أصنع سينما بل أكتفي ببيان الحياة الواقعية… لابد من إظهار الاستغلال).

 أراد غوني في أفلامه أن يقول: (هذا الواقع وهذا شرائحه وهؤلاء هم المسببين فشقوا الطريق، ومزقوا صدور ظالميكم بفؤوسكم ومطارقكم واصنعوا حياتكم وتاريخكم الجديد).

وكان لابد من نظرية فكانت الماركسية الأكثر شيوعاً بين الفئات المجتمعية الكادحة وبين مثقفي الشعب الكردي آنذاك. حيث يقول غوني (إنني استرشد بالماركسية كمبدأ ومنهج جمالي وفكري, التزم به وأسير على هديه) ولهذا بدأ يخرج أفلاماً اكثر قوة وذلك بعد عام ١٩٧٢ حيث اخرج أفلام (الآلام المرثية، غداً هو اليوم الآخر، الأب …) ليدخل السجن من جديد ولكنه لم يتوقف عن العمل أبداً. حيث ضربت إحدى أفلامه أرقاماً قياسية في إنجازها (أربعة عشريوما)،(القطيع) ليقول القليل عن الكثير من قضايا شعبه الفقير في عالم محروم حتى من ذكر اسمه “أتراك الجبال”، حيث رسم غوني مأساة هذا الشعب المستمرة وفجرها على يد بيرفان عندما يخنق سمسار الخراف ليقول أن هذا الشعب عندما سينفجر سيجرف معه من يقف في وجهه ولن يفلت أحد من عدله ومن أصابعه. وفي فيلم (يول )”الطريق” أراد أن يقول كوناي أين الطريق ..، أين السجن الحقيقي، هل هو السجن المحاط بالهراوات والأسلحة والأسلاك الشائكة أم هو هذا البلد الكبير المحاط بنقاط الحدود وبالبحار المسمى تركيا.

هل سخط قلب غوني على الحياة وهو بعيد عن وطنه وهو يردد في أيامه الأخيرة في احدى مشافي باريس:” أيتها الطيور حطمي النوافذ إلى الحرية” هل قَصَدَ غوني شعبه بالطيور، والأنظمة الغاصبة والمستبدة هي بالنوافذ، وكردستان هي الحرية، وعندما سؤل يلماز غوني عن الغربة قال ” أن المنفى هو تبديل شكل من أشكال السجن بآخر” والجدير بالذكر أن يلماز في آخر أيامه لم يكن يملك شيئاً لا مال ولا جواز سفر بعد أن أسقط عنه النظام التركي الفاشي حق المواطنة.

يلماز في آخر أيامه كتب وصيته ووهب جسده للمجمع الكردي في باريس ليتصرف بها…وهب نفسه لبقعة صغيرة وبعيدة عن شمس الوطن يتردد فيها يومياً اسم كردستان على الصفحات والأفواه حيث كان حلمه قبل أن يغمض عينيه أن يصنع فيلماً عن تاريخ كردستان وعن نضال شعب كردستان ضد مستعمريه.

 وفي سؤالٍ آخر له عن كردستان موحدة أهي حقيقة أم حلم صعب التحقيق.

قال غوني بألم وثقة: (سيكون ذلك لو اعتمد الكرد على حسن نية, كذلك الأنظمة الغاصبة لكردستان ولهذا السبب بالذات لا خيار أمام الكرد سوى الاعتماد على قواهم الذاتية).

 ولعل أبرز عمل أدبي يقص حياة غوني هو ما صدر عن دار العلم (ناوكا) في موسكو عام 1987 كتاباً بعنوان (يلماز غوني) من تأليف الصحافي والكاتب السينمائي الأذربيجاني (حسينوف) والكتاب في مجمله هو لقـاء طويل، تم على مراحل، مع الراحل (يلمـازغوني)حينما كان في السـجن.

زر الذهاب إلى الأعلى