ثقافة

وصايا على منصّة الإعدام

qazi_mohamad432يعدّ قاضي محمد مؤسّس جمهورية مهاباد، الجمهورية التي تأسّست في عصرِ تمأسُس الكيانات “الجمهوريات” والدول في القرن العشرين قرن الدول القومية في الشرق الأوسط، وبعد انهيار القوتين الحاكمتين في الشرق الأوسط “العثمانيين والصفويين” وبعد الغزو الاقتصادي والعسكري للقوى الأوربية الحاكمة للعالم والتي انتصرت في الحربين العالميتين الأولى والثانية في مقدمتها فرنسا وبريطانيا وروسيا ، تأسّست مجموعةٌ من الدول القومية والتي هي جزء من السياسة التي اتبّعتها تلك الدول المنتصرة وفق مفهوم المنتصر والمهزوم، فبدأتْ بتقسيم  المنطقة  وفق توازنات واتفاقيات تخدم بالدرجة الأولى مصالحها وأجنداتها دون أي اعتبارٍ للمصطلحات والمواثيق البراقة لهيئة الأمم المتحدة والتي كانت من أهم مواثيقها حق الشعوب في تقرير مصيرها.

 حقيقةً إنّ جمهورية مهاباد لم تكن ثمرةً لتلك التوازنات والتقسيمات بقدر ما كانت نتيجة لمقاومة تاريخية أبداها الشعب الكردي في سبيل تحرّره وكرامته ضدّ الاستبداد والتشرذم الذي تعرّض له على يد الغزاة والطامعين، الذين حكموا المنطقة تحت شعارات دينية وتحررية واهية، لذا لم تصمد هذه الجمهوريةُ الوليدة واضمحلّت خلال فترة قصيرة نتيجةَ المؤامرات والدسائس التي كان يكيدها المستبدون والمتسلطون للكردي، وكأي ثورة للتحرّر قادها الكردُ، اُقتيد قائدها القاضي ومجموعة من رفاقه إلى حبل المشنقة،

 الجمهورية سقطت وأُعدم رئيسها، لم تكن هذه المؤامرة هي الأولى ولن تكون الأخير، بإعدامه ظنّ المتآمرون بأنهم قضوا على آخر شعلة تنير درب حرية الشعب الكردي.

 بتحليل منهجي لواقع الثورات والمقاومة التي أبدتها الشعوبُ والفئات المظلومة في سبيل تحرّرها، ومن بينهم الشعب الكردي الذي يملك سجلاً تاريخياً حافلاً بالثورات والانتفاضات، نرى

أنّ نهاية تلك المقاومات كانت بالتآمر والفتك بقيادتها وشن أعنف حملات الإبادة على المنطقة والشعب المقاوم، من هنا أدرك قاضي قبل أن يقتاد إلى حتفه أنه أمام أمرين إما الاستمرار في المقاومة ومجابهة آلة القتل الإيرانية والتركية، خاصة إن القوى التي ساندة الجمهورية الوليدة سحبت مساندتها وأدارت ظهرها لها ولقيادتها، وتكالبت القوى الرجعية في مؤامرة سافرة اشتركت فيها كلٌ من النظام التركي والايران والعراقي، متزامنة مع انسحاب القوات السوفييتية من المناطق الايرانية القريبة من حدود جمهورية مهاباد آنداك، وإما أن يضحّي بنفسه هو والمجموعة التي اقتيدت معه إلى مشانق النظام الإيراني  في سبيل التخفيف من حجم الكارثة والقمع الذي سيتعرض له الشعب الكردي.

كان لشخصية قاضي محمد تأثيرٌ كبير بين مختلف فئات الشعب الكرد، تأثر قاضي محمد بالأفكار الديمقراطية والوطنية، وأسّس القاضي عام 1945الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان برنامجه يتلخص في تحقيق الحرية بإيران، والحكم الذاتي لكردستان داخل الحدود الإيرانية، والإخاء مع الشعب الأذربيجاني وكل المكونات التي تعيش في الإقليم الفارسي ، وأعلن في 22 كانون الثاني 1946 قيام جمهورية مهاباد ، وانتخب رئيسا لها، وحاول التفاوض مع النظام الايراني حول علاقة جمهوريته بوصفها سلطة حكم ذاتي بالحكومة المركزية، لكن الحكومة الإيرانية ردت في كانون الأول 1946 بإرسال حملة عسكرية (بعد انسحاب القوات السوفياتية من إيران) تمكنت من القضاء على الجمهورية الفتية.

واعتقل القاضي ومن معه من قادة الحزب والبالغ عددهم 28 عضواً حسب بعض المصادر.

تمت محاكمة قاضي محاكمة صورية أمام محكمة عسكرية حكمت عليه بالإعدام في 23 كانون الثاني 1947 وأجّل تنفيذ الحكم 66 يوماً، حيث نفّذ حكمُ الإعدام في 30 آذار في ساحة جارجرا فجراً وهي نفس الساحة التي أعلن فيها الجمهورية .

 مقتطفاتٌ من الرسالة التي  توجّه بها بيشوا قاضي محمد إلى أبناء شعبه قبل أن يعدم:

يا شعبي المظلوم

ها أنا ذا في اللحظات الأخيرة من حياتي، أقدم لكم بعض نصائحي:

  • تعالوا أناشدكم بالله أن لا يبغي بعضكم على بعض.. توحّدوا وتعاضدوا…. لا تبيعوا أنفسكم لعدوكم …وإنَّ تودّدَ عدوكم لكم محدودٌ، وينتهي حين تتحقّقُ أهدافُه.. فهو لا يرحمكم أبدا، ومتى وجدَ الفرصةَ واستنفدتْ أغراضُه، فإنه ينتقمُ منكم لا محالةَ ولا يعفو عنكم.

إن طريقَ نصر أيّ شعب أو أمّة، يكمن في وحدتهم واتحادهم، وكذلك في المناصرة، وإلا فهم يرزحون تحت وطأة المتجبرين.

أيها الشعب الكردي:

لستم بأقلّ من أي شعبٍ على وجه البسيطة، إنما أنتم في الرجولة والشهامة والقوة متقدمون على كثيرٍ من الشعوب التي تحرّرت.. فالشعوبُ التي تخلّصت من قبضة المستبدين، هم أمثالكم، وإنّ تحرركم مرهونٌ فقط بالوحدة ونبذ الحسَد ورفض العمالة للأجنبي ضدّ شعبنا.

  • لا يخدعنّكم العدوُ.. ويوقعُ بينكم الفتنةَ والتقاتل، ويثيرُ بينكم الأطماعَ.. وعن طريق الخدعة والأكاذيب، يُحرّضُ بعضَكمْ ضدّ بعض.

 لذا أناشدكم وكأخ: اتحدوا ولا تتفرقوا.. وتيقنوا بأن العدوَّ لو منحكم العسلَ، فإنهم يدسّون السمَّ فيه.

ها أنا ذا في اللحظات الأخيرة من حياتي، أنصحكم وأعيده عليكم وأطالبكم بألّا تنخدعوا أكثر… ولا تصدقوا “الأعداء” حتى وإن أقسموا بالقرآن ولا بعهودهم وعقودهم، وما دمتم كرداً، فإنكم في نظرهم مجرمون ومحكومون، من أجل ذلك، فإنّ رؤوسكم وأموالكم وأرواحكم مباحٌ وحلالٌ بنظرهم،.. ولو أنّ رؤساءَ القبائل والعشائر لم يخونوا ولم يبيعوا أنفسهم للعدو، لما حصل لنا ولكم ولجمهوريتنا ما حصل.

نصيحتي ووصيتي لكم هي:

أن تحثوا أبناءكم على طلب العلم، فإننا لسنا بأقلّ من الشعوب الأخرى ولا ينقصنا شيءٌ غير العلم.. تعلّموا، حتى لا تتأخّروا عن ركب الشعوب….تأكّدوا لو أنكم اتفقتم واتحدتم وأوليتم العلم اهتمامكم، فأنكم سوفَ تنتصرون على أعدائكم نصراً عزيزاً.

لكنني آمل أن يكونَ هذا درساً وعبرةً للمخلصين من أبناء الشعب الكردي.

 لا تبيعوا أنفسكم للعدوّ طمعاً في بقاءٍ زائلٍ في هذه الدنيا، لأن العدوَ هو نفسُ العدوِ ولا يمكنُ الاعتمادُ عليه.

رحلَ قاضي محمد لكنّ روحَه المقاومة ظلت تنبضُ بالحياة في جسد مئات الألاف من الثوار الكرد الذين قدّموا ولايزالون يقدمون دماءَهم في درب الحرية والحق والكرامة. وصّيته ظلت حيّة في ذاكرة الكرد، الذين يواصلون ثورته ومقاومته لتحقيق تطلعاته الإنسـانية إلى يومنا هذا.

دوست ميرخان

زر الذهاب إلى الأعلى