مقالات

نوروز الأمة الديمقراطية

طه الحامد

لم يكن المفكر عبدالله أوجلان في وارد إن نظرية الأمة الديمقراطية وإخوة الشعوب الحرة سوف ترى النور على أرض الواقع بهذه السرعة في أول فرصة تتاح لها , رغم يقينه إن خلاص شعوب ميزوبوتاميا و بناء العدالة والسلام لن يكون إلا عبر حرية كردستان و دمقرطة الشعوب والدول التي تتقاسمها . و كان يتوقع أن يكون المسرح التجريبي الأول هو باكوري كردستان وأناضولية .. و لكن شاءت الظروف ان يكون الجزء الصغير من كردستان هو اول من يجعل من تلك نظرية واقعاً ملموساً.

ما شاهدناه اليوم في نوروز 2017 لم يكن كأي يوم ولا كأي عيد شاهدناه عبر العقود السابقة , فقد كان حقاً بمثابة إستفتاء مجتمعي و شعبي و سياسي لمشروع الأمة الديمقراطية و تأكيد على إمكانية تطبيقها عندما تتوفر الإرادة الحرة و القيادة الجماعية التشاركية بين مكونات المجتمع و شعورها بوحدة المصالح و وحدة المصير .

فقد ظهرت المكونات القومية على مختلف ثقافاتها في مناطق الإدارة الذاتية من ديريك إلى عفرين بمظهر شبيه تماماً بمعاني النوروز وقيّمها الإنسانية كيوم للحرية و التجدد الدائم , كان تعبيراً حقيقياً عن كينونة ميزوبوتاميا و قدر شعوبها أن تحيا جنباً إلى جنب في صيرورة لمسار تاريخ طويل وعريق من العيش المشترك و الشراكة بين الشعوب , ذلك التاريخ الذي تم تحريف مساره و فصله عن الجذور الثقافية و الأخلاقية التي سادت قبل بروز الدول والكيانات السياسية القوموية و الدينية , هذه الآفة القوموية و آفة الإسلام السياسي و النزعات العرقية والدينية المختلفة التي كانت بمثابة الحريق الذي شب في سهول ووديان ميزوبوتاميا والشرق الأوسط عموماً و فرقت و قسمت الشعوب طولاً وعرضاً وجعلت الحروب و القتل والحرائق والسجون عنواناً لها وسمتها الاساسية بدلاً من السلام والتنمية والحريات و الإزدهار .

في فترة قياسية تشبه ومضة زمنية قصيرة جداً خرقت قوانين نطرية التراكمات والحجم الضروري المتوفر لتحويل الكم إلى نوع , في لحظة ثورية صاعدة إستطاع القائمون على الإدارة الذاتية من تحقيق هذه القفزة النوعية في المجتمع وذهنيته , وهذا هو جوهر الثورات الحقيقة التي تحدث إنقلاباً سريعاً عندما تتوفر الشروط والظروف والقيادة الثورية والمشروع السياسي الثوري .

لا توجد ثورة دون معيقات و إرتدادات و كوابح , فكل قديم يقاوم الجديد و يستحدم كل عناصر البقاء للصمود أمام الجديد الصاعد , وإزاحة القديم يحتاج لقوى وعناصر متفوقة في الكم والنوع وإلا سيبقى الصراع مستمراً إلى ما لا نهاية أو الذهاب إلى حلول وسطى بينهما وهذا بحد ذاته إجهاض مبكر للثورة .

إن التفسير الحقيقي للثورة المضادة التي تخوضها القوى القديمة التي مازالت متمسكة بذهنيتها وثقافتها التي تأسست على الفكر القوموي و الإقطاع العرقي و إيديولوجية شعب الله المختار التي ترى في الشعوب الأخرى أقل شأناً و قيمة و المضاد أصلاً للفكر الحداثوي الديمقراطي , وهذا ما يجمع بين مكونات الجبهة المضادة لثورة لروجآفا التي تتفق في معركة إفشال التجربة الجديدة وتفترق مصالحها و مآربها في مكان آخر لأنهم يحملون نفس الذهنية القوموبة الضيقة والموروث الديني المشتّت للجماعات البشرية على أساس عقائدي سواء كان مسيحياً أو مسلماً , فنجد إن القوموي الكردي إلى جانب الشوفيني العربي والتركي في نفس تلك الجبهة و نجد المسيحي و اليساري القوموي العروبي إلى جانب الإخوانجي القاعدي .

رغم إن جبهة الأمة الديمقراطية وجيهة الحداثة الديمقراطية تحوي كل المكونات تلك و لكن بذهنية مختلفة و تناقضات أقل بكثير فإن التباينات و التناقضات تلك نتاج العمل و المنافسة والنقاش على تقديم الأفضل وتطوير المشروع الجمعي دون الإكتراث بمفهوم الأقلية أو الأكثرية الدينية والقومية في وضع أنظمة الإدارة فخمسة آلاف سرياني لهم ما لخمسة ملايين عربي و لثلاثة آلاف إيزيدي ما لستة مليون مسلم من حيث القيمة والحقوق , أما التناقضات هناك مبنية على أسس إلغائية و إقصائية , حيث كل طرف يطمح لأن يتسيد قوميا على القوميات الأخرى و تتسيد الأكثرية الطائفية و الدينية على الأقلية كما يتسيد المالك على المرابين .

ولأن ثورة روجآفا ثورة مجتمعية لا تحمل هويات ضيقة عرقية أو دينية , ثورة ديمقراطية حضارية إنسانية وضعت نصب أعينها حرية الجميع , ساعدت العربي ليكون حراً من خلال تخليصه من ذهنية المالك والمستبد السيد على الأقوام الأخرى و ساعدت السرياني والكردي للتخلص من ذهنية المهزوم والمظلوم والعبد ..ولأنها كانت كذلك فهي ثورة تحرر الجميع الطالم والمظلوم …ولأن كرد الإدارة الذاتية و وحدات حماية الشعب كانوا كذلك …فمن الطبيعي أن يكون العقال العربي و الريشة الآشورية وبيث نهرين السرياني والشال والكوفية الكردية والأزرق التركماني هذا اليوم عنواناً لعيد النوروز ..نوروز الأمة الديمقراطية

زر الذهاب إلى الأعلى