ثقافة

“مالفا”…آثرٌ في مزج الريشة التعبيرية بالتجريدية.

malvaيعَّد عمر حمدي والمعروف عالمياً بـ “مالفا” أحد أبرز الملوّنين الكبار في فن الرسم وأستخدام اللون، رحلةً طويلة وشاقة تحشدت
بمخزونٍ بصر
ي متفرّد، مزيج من ذاكرته الأولى في حقول القطن والقمح في الجزيرة، ومفردات منفاه الأوروبي ،البهجة اللونية التي تشع من السطح، تختزن حزناً بين عينيه وعلى تجاعيد يديه دفيناً لم يغادره حتى مثواه الأخير.

التشكيلي الكردي طالما كان يستعيد مأساته بما يشبه نواح القصب على شاطئ الخابور، وأوجاع البشر المهملين المتشرذمين من بني جلدته، وألوان التراب جداريات تخطف العين إلى ثراء عناصرها، في جملة التوليفات المتراصّة بمربعات ومستطيلات متجاورة، تستعيد شريطاً من سيرة ذاتية مضطربة متألمة  تشف عن حنين لا ينتهي إلى الأرض حيث بلاده، بكل أساطيرها وبهجتها وأحزانها، في أعماله يضيء ذاكرة ملتهبة بالتواريخ والأشكال والرموز البدائية، والأقمشة المحلية وتاريخ ٌمن فنون شعبه ومأثره، مستحضراً صدى حضاراتٍ قديمة موغلة تعيش إلى اللحظة في وطنه في حوار بصري مكثّف من النظم اللونية والقيم التشكيلية المبهرة، لكنّ «مالفا» لا يدع ألبومه الشخصي كما هو، بل أضاف إليه إشارات غرافيكية مهمة، تبرز قدرته كملوّن من طراز خاص، وضع لمسته الأخيرة على هذا النسيج التراكمي، عبر عملية انقلاب معرفي وأركيولوجي، تأتي كمحصلة نهائية لرؤاه الانفعالية واللونية.

من قريته الطينية «تل نايف» في أقصى الشمال السوري إلى فيينا، رحلة طويلة من الهروب والمكابدات والفقر والألم، خاضها عمر حمدي بقوة القلب واللون في آنٍ واحد، كما يقول عنه أحد زملائه.

 خلال سنوات الدراسة في مدينة الحسكة، اضطر هذا التشكيلي الكردي السوري إلى العمل ليلاً في دار للسينما كخطاط ورسام مناظر وعامل تنظيفات وقاطع تذاكر، وفي الوقت نفسه، كان يخزّن في ذاكرته الفتية الجانب الحسي للأشياء، ليغرق في اللونين الأحمر والأسود دون سواهما من الألوان، ويرسم سرّاً حقول القمح ووجوه الفلاحات، والأمهات، مستخدماً شفرات الحلاقة بدلاً من الفرشاة، ولطالما أخفى لوحاته في بئر المنزل، كي لا يكتشف والده هذه الهواية التي “لا تُطعم خبزاً”، وستنتهي به إلى أن يكون عتّالاً في سوق الخضار، تخرّجه من “دار المعلّمين”، باع حمدي درّاجته الهوائية، وبثمنها الزهيد اتجه إلى دمشق على ظهر شاحنة برفقة لوحاته ،فور وصوله إلى العاصمة، استقل سيارة أجرة إلى صالة “المركز الثقافي العربي” في حي أبو رمّانة بدمشق، هناك قابل مدير المركز “بهنسي” الذي أُعجب بلوحاته ووصفها بأنّها “مجزرة” ووافق على إقامة معرض لهذا الفتى الذي لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة من عمره، كان للمعرض وقع الصدمة على الحياة التشكيلية السورية بشكلٍ عام، نظراً إلى تفرّد التجربة وقوّتها الإيحائية آنذاك، واختار الفنان أن يوقّع لوحاته باسم “مالفا”، من وحي اسم وردة في قصة لتشيخوف، لكن عمر حمدي سرعان ما أحدث صدمة أخرى أشد تأثيراً، فما أن انتهى المعرض حتى جمع لوحاته، وغادر المكان إلى إحدى ساحات دمشق. هناك أضرم فيها النار، ليعود بعدها إلى مدينته، ويصمت عاماً كاملاً من دون أن تمتد يده إلى الفرشاة والألوان، وعندما عاد إلى دمشق مرغماً، بعد عامين، لتأدية الخدمة الإلزامية العسكرية، وجد نفسه مجدداً في أقصى حالات العزلة، ينام في الحدائق العامة، أو فوق كرسيين في إدارة مجلة “الفرسان” التي نُدب للعمل فيها كمصمّم صحافي ورسّام موتيفات.

في هذه الفترة من حياته المضطربة، بدأ الفنان عمر حمدي بحثه في جوهر الأشكال، غارفاً من ذاكرة متفجّرة بالطقوس الحسيّة والواقعية الصوفية، ورؤى تجريبية غائمة، لا تستقر على حال كنوع من التمرّد على سكونية حياته الممزقة وواقعه المؤلم، بين حميمية القرية الطينية الضائعة ومدينته الفقيرة المهمشة، وخشونة العلاقات الإنسانية في العاصمة المتمدنة، هكذا جاءت أعماله استجابة لنوازع داخلية دفينة، كانت تتسرّب على شكل احتفالية لونية، تتسم بالشاعرية والحلم وأوجاع الغربة في نهاية السبعينيات.

 تعرّض عمر حمدي إلى ظروف مهنية وعاطفية قاسية، فهرب بجواز سفر مزوّر إلى بيروت، ليغادرها على متن سفينة صيادين إلى قبرص، ثم إلى فيينا التي استقر فيها، مستعيداً كيانه المنهوب، في حمّى لونيّة مختلفة مغرقة بالعاطفة، تحمل أعمال عمر حمدي بصمته الخاصة وطلاسم وجهه الكردي الشرقي، ولتتجسد لديه قدرة هائلة على المزج بين التجريدي والتشخيصي بإيقاع يحيل على تجارب انطباعيي الغرب ودفء ألوان الشرق معاً، وما انفكّ أسلوبه يخضع لاختبار الذاكرة الأولى، عبر استحضار المخزون القديم، ما شكل سجادة بصرية من الألوان والاشتقاقات والتضادات في سبيكة خشبية واحدة.

ولعلّ مغامرة “مالفا” الأساسية، تتجلّى في البساطة الخادعة، وهو يُنشئ منجمه اللوني بضربات ريشة ممزقة، تُطيح الطبقة الأولى للوحة، بعد تأسيسها واقعياً يضفي ذلك على اللوحة أسلوبية مختلفة، تضع المتلقي في حيرة، وتشتته أمام هذه الكتل المتراصة التي تشبه لقطات سينمائية مختزنة في ذاكرة الفنان… وعلى المتلقي تفكيك هذه التكوينات وإعادتها إلى جذورها الأولى، انطلاقاً من ذاكرة موازية.

 وعلى الرغم من الاحتفالية اللونية الباذخة التي تغلّف سطح اللوحات إلا أن حزناً شفيفاً، يطل من زوايا اللوحة، ليرسم صورة لمأساته الداخلية، وغربة روحه الممزّقة بين صقيع فيينا، ودفء مهده بكل تجلياتها اللونية، وما اللون الأبيض في بعض أعماله، إلا ترجيعاً قسرياً لتلك المأساة، وإن جاء هنا في مقام آخر، يتعلق بقدرته على توزيع الكتل اللونية وتصادمها في فضاء اللوحة، هو ما اختزنه من إرثه المحلّي الشعبي وتفسيراته الفردية التي تنهض على منعطفات تجريبية وتكوينات مركّبة على هيئة منمنمات مستمدة من جماليات شرقية ونبرة حداثية خاصة.

في رسومه لا حدود معلومة للشكل، فهي تتفجر بثراء لوني يدعو إلى الدهشة، وإذا ما كان هذا الرسام قد انتهى تجريديًا فإنه يعود أحيانًا إلى نوع من التشخيصية التي يغلب عليها التمثل الحدسي، نرى الإنسان ماثلاً أمامنا، ولكن من خلال فيض الألوان التي ينعم بها فضاؤه الداخلي، وهكذا تمكن (مالفا) طوال زمن غربته من صنع أسطورة انتمائه إلى شمس الشرق حتى صار بتميزه الأسلوبي علامة مهمة ولافتة في الفن الغربي.

لوحاته عالم ساحر من الألوان القوية،وكما يقول أحد الفناين السوريين يعتبر عمر حمدي بصمة متألقة في خارطة التشكيل العالمي.

 أعتبر خامس فنان تشكيلي على مستوى العالم, وإنه الكردي السوري وحتى على مستوى العالم العربي الوحيد المسجل اسمه في الموسوعة الفنية العالمية عمر حمدي – الذي ينتمي الى جيل من الفنانين السوريين, برز على الساحة الفنية في بدايات السبعينات, لم يدرس في اكاديمية فنية, وانما هو نتاج مدرسة ذاتية متميزة في الفن التشكيلي, وهي لم تخضع للقيود الاكاديمية, وقد حققت معادلاتها الخاصة بها بتزاوج غريب ما بين هذه القدرات الجرافيكية, والانفلات عن اطار التصنيفات الفنية، أنه فنان التفاصيل الدقيقة والمساحات المختزلة

وعدَّ أهم أسمٍ في تاريخ المدرسة الانطباعية المعاصرة, رأس التحكيم في صالة (ارت فورم) للفن المعاصر بفيينا, كما أرتبط بعقد مع أحدى صالات العرض المعروفة بالولايات المتحدة, وبعقد آخر مع صالة في فيينا, وأقتنى اعماله صالات عرض, متاحف , فنادق, بنوك, دور الثقافة والفن, وهي موزعة في النمسا , المانيا, سويسرا, فرنسا, اليابان, امريكا. وهذا يعني أن عمر حمدي اصبح ملكا للحركة التشكيلية العالمية.

يقول مالفا في أحدى حوارياته« اللون .. اللون .. كلّ شيء هو لون .. يولد مع فتحة العين، وينتهي في المكان الذي ولدت فيه، كانت الفراغات اللونية كبيرة، تتحرك مع غبارها رقع لون صغيرة من ثياب وسجاد ولحف، وكأنها إيحاءات لصدى قديم، نخشى على غيابها..‏ إلا أنّ اللون يبقى حتى اليوم كلما بدأت أواجه المساحة البيضاء، متاهة كبيرة، متاهة الخبرة والإضافات الجديدة، شيء غير قابل للانتهاء، لا شيء ينتهي، كذلك اللون، هذا السر الأبدي للحياة، سرّ لا يمكن الوصول إليه بدون أن تمنحه كل ما عندك.. وأبعد من ذلك أمام هذا الضياع الكبير وتلك المرحلة المعقدة في حياتي، كنت وحيداً مثل اليوم.. أعشق الطبيعة لأنها الحياة، والتفاصيل، واللون والمعجزة والأساس لكل التطورات التي حصلت في تاريخ الفنون الإنسانية».

لمحة عن حياة عمر حمدي – مالفا

– ولد في قرية تل نايف التابعة لمدينة الحسكة في عام 1951، بدأ حياته الفنية بأول معرض له في دمشق العام 1968، كان عضواً في (نقابة الفنون الجميلة بدمشق والاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب واتحاد الفنانين التشكيليين النمساويين واليونسكو بباريس الاتحاد العام للفنانين، توفي عن عمرٍ ناهز64عاماً في النمسا العام الماضي 2015.

أهم المعارض التي أقامها خلال مسيرته الفنية :

1976 (مالفا) عمر حمدي:  الحياة واللون، باللغة العربية، دمشق.

1994 (من من) الفن العالمي، سويسرا.

1999 قاموس عالم النقد الفني، باللغة الانكليزية، فلاش أرت للنشر.

2004 ألبوم (مالفا) إلى الألفية الجديدة، معرض أرنوت، نيويورك، الولايات المتحدة الأميركية.

مختارات من معارضه الفردية:

1976 صالة الشعب بدمشق، 1977 المتحف الوطني بحلب

1979 فيينا، البنك النمساوي المركزي – آرت غاليري بشيكاغو، غاليري ليتسون بتينيسي ناشفيل – غاليري كرال بسان فرانسيسكو – وغاليري آرنوت بنيويورك.

1990 غاليري اتيليه – وغاليري سيليستة بفيينا ودار الفن بكوتينكن بألمانيا.

1991 غاليري فرانكين شتاين ببرلين.

1992 غاليري فيندلي بنيويورك وباريس.

1993 غاليري آرت فوروم للفن الدولي المعاصر بفيينا.

مختارات من معارضه المشتركة:

1972 – 1977 مشاركة بمعارض الخريف السنوية في المتحف الوطني بدمشق والمعارض الدورية لنقابة الفنون الجميلة.

1980 – 1992 مشاركة بمعارض الاتحاد العام للفنانين النمساويين داخل النمسا وخارجها.

1989 قصر المعارض بفيينا – والمهرجان العربي الأول للفنون – دار الفن بكوتينكين بألمانيا.

1985 – 1993 مشاركة بالمعارض العالمية السنوية للفنون بفرانكفورت، ألمانيا.

1989 المشاركة بالمعرض العالمي للفن المعاصر في مدريد، اسبانيا.

1990 المشاركة بالمعرض العالمي للفن المعاصر في ميلانو، إيطاليا.

1991 المشاركة بمعرض آرت جونكسيون الدولي في نيس، فرنسا.

1992 المشاركة بمهرجان بولونيا للفن المعاصر، ايطاليا. ومهرجان فيرونا للفن الأوروبي. ومعرض دار الفن في النمسا، والمعرض العالمي في اسبانيا، والمعرض الفني في مهرجان المحبة والسلام في اللاذقية، سورية.

اهم الكتب عن عمر حمدي – مالفا

– ( مالفا حياته واعماله ) بالألمانية اعده الدكتور ستيفان قيصر. – (مالفا: دراسة نقدية) بالانجليزية والالمانية , للكاتب نيقولاي ماياكوفسكي. – (مالفا: الاعمال الانطباعية) بالانجليزية, من كاليري ارنولد بنيويورك, وبالالمانية من كاليري اتيليه في فيينا, مع دراسة نقدية تحليلية للكاتب اندريه ماتسونو. كما ان اسمه واعماله مذكورة في العديد من القواميس الفنية العالمية , منها: – (قاموس النقد العالمي) بالانجليزية, عن دار فلاش ارت للنشر. – ( قاموس الفن العالمي للفنانين والنقاد) بالالمانية عن دار ادريش للنشر. – (قاموس: اليوميات الفنية العالمية) , والذي يصدر عن مجلة فلاش ارت العالمية.

 أضافة لمؤلفات عديدة له منها : مالفا عمر حمدي.. الحياة واللون باللغة العربية دمشق سورية عام 1976،و من الفن العالمي سويسرا

1994، وقاموس عالم النقد الفني باللغة الإنكليزية عام 1999، وألبوم مالفا إلى الألفية الجديدة معرض أرنوت نيويورك الولايات المتحدة الأميركية عام 2004.

آثر أن يعرف عند أهل تلك البلاد بواحد من أسمائهم، لكنه لم يستطع أن يخرج من جلده الشرقي، فجاءت لوحاته مزيجًا من البناء والتصوير الغربي بألوان الشرق وإيقاعاته الجزئية، شاعر اللون الكردي، انتقل إلى عالمٍ أخر وبقيت أعماله موزّعة على جدران معظم متاحف العالم.

 

زر الذهاب إلى الأعلى