ثقافة

قيمةُ الفنّ تتكلّل بتقدير الفنّان، فهل نال هذا التقديرَ؟

seed-ferso-%e2%80%ab1%e2%80%ac-%e2%80%ab%e2%80%acلا يزالُ في ذاك المحلّ الذي يكادُ أن يتسّع لألاته الموسيقية( الطُنبور والبزق والعود…..) والتي تزيّن ذاك المكان الصغيرَ،    والشيب يغزو شعره يوماً بعد يوم، وترسم التجاعيدُ على وجهه لوحاتٍ من الشقاء والتعب والأسف والألم، لكن مجرّد أن تطأ قدماك إلى الداخل وتجالسه، تنتقلُ إلى عالمٍ أخرَ يتسّع فيك المكانُ ليصبح حديقةً لا أسوارَ لها، ورواية لانهاية لها، وينتقل بك الخيالُ إلى زمانٍ آخر حيثُ عمالقةُ الغناء وأصوات الأوتار التي تبقى صداها في ذهنك تعانقُ أحاسيسك، وتنضبُ الحياة في عروقك من جديد، ليس هذا فقط بل يثير فيك الغضب تارةً والأسى لواقعٍ مرير عاشه شعبنا، خاصّة من لم يقبل الانضواء والانطواء في البوتقة الاستبدادية، لم تكن هذه مقدمة لقصة تراجيدية، إنما لواقعٍ عام عاشه المثقفُ والفنان المرتبط بهويته وثقافته.  في زيارةٍ لي إلى محل ديلان للآلات الموسيقية التقيت بالفنان “سعد فرسو” صاحب هذا المحلّ الذي يتسع كلّما طال بك الجلوسُ والحديث والحوار معه.

حوارنا مع الفنان بدأ من تل عربيد، القرية التي ولد فيها وعاشَ فيها ذكرياتِ طفولته، الفنان سعد فرسو من يكون وكيف بدأَ مشواره في العزف والغناء؟

أنا من مواليد قرية تل عربيد عام1958، عشتُ طفولتي بين أطفال القرية وكانت قريتنا ليست كباقي القرى في المنطقة، كانت قرية منفتحة نوعاً ما على الفنّ والثقافة، كون الغالبية كانوا “شيوعي الانتماء الفكري”  لذا كان الغناءُ والعزف مُستحباً في القرية وضمن العائلة أيضاً، ولم يكن هناك اعتراضٌ من الأسرة على العزف، أخي الأكبر كان عازفاً على آلة الطنبور ويهوى الغناء، لذا ترعرعتُ في هذه الأجواء وتعلقت بآلة الطنبور منذ طفولتي، كنت أعزف وأغني وأستمع إلى أخي وأصدقائه عندما كانوا يجتمعون في دارنا، وكان من بين هؤلاء الفنان الراحل محمد شيخو الذي تعلّقت بصوته كثيراً، وكنت أتمرّن على عزف أغانيه، هكذا أصبحت الموسيقا جزءاً من حياتي والتي ستؤثر في مسيرة حياتي. في المرحلة الإعدادية انتقلتُ مع أخوتي إلى مدينة قامشلو للدراسة، وفي الحي الذي كنا فيه كان من المعيب العزف والغناء، لكن هذا لم  يمنعني من متابعة هوايتي، فتارةً كنّا نجتمع في منزل أحد الأصدقاء نروي ظمأنا للغناء والعزف، بعد ذلك اشتريتُ آلة الطنبور، وفي المرحلة الثانوية أصبحت عضواً في فرقة السلام التابعة للحزب الشيوعي، وبعد الذهاب إلى الخدمة العسكرية تعلمتُ الموسيقا بشكل أكاديمي من خلال الدورات الموسيقية في معهد الموسيقا، حيث درستُ الموسيقا في مدارسَ خاصة في دمشق  على يد عازف العود السوري حبيب عيسى، وأيضاً تعلمتُ على يد الدكتور محمد علي ظاظا، حينها عزفتُ على آلة العود وكنت من الأوائل في المعهد. استمعت إلى الموسيقا العربية أيضاً أمثال( فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب …..) وهذا ما صقل موهبتي في تجاوز وتطوير العزف الكلاسيكي الفلكلوري، الذي اعتمد في ذاك الوقت على نمط واحدٍ، ولم يكن يستخدم الصولفيج الموسيقي في العزف خاصة في منطقتنا، وهنا أقول إن الفنانَ الراحل محمد شيخو أيضاً كان قد تجاوز هذا النمط، ويُعتبر الفنان محمد شيخو بعزفه وفنه مدرسةً موسيقية كردية خاصّة.

 منذ أن بدأتُ العزفَ كنت أرى نفسي مُلحّناً أكثر من أن أكون مغنياً، وتأثرت كثيراً بالمدرسة الفنية الكلاسيكية والحديثة الكردية.

ومع بداية الثمانينات بدأتُ بتلحين وغناء قصائد الشاعر الكبير جكرخوين، وفي عام “1988”لحنتُ لأغنية “حلبجة ” والتي كان من كلمات الشاعر طه خليل، والتي كانت لها صدى كبير،  ومنحتني هذه الأغنية دفعاً كبيراً للتوجّه نحو الأغنية المُلتزمة إلى جانب اهتمامي بالأنماط والمقامات الموسيقية الأخرى.

 تجولتُ كفنان في عددٍ من المدن السورية مُنفرداً ومع الفرقة الموسيقية، وشاركنا في الكثير الحفلات والمناسبات والمهرجانات، كنت أعزف وأغنّي، وحينها كنت المسؤول عن الجانب الفني في منظمة الشبيبة الشيوعية لذا كنت كثير التجوال، لكن بعد ذلك انفصلتُ عن فرقة السلام.

 وبعد أن أنهيت الخدمة العسكرية في الثمانيات، عدتُ إلى قامشلو وشاركت في مناسباتٍ وطنية ومهرجاناتٍ عديدة،  لديّ الكثير من الألحان، لكن لم أقُم بأرشفة كل ألحاني، ولي ثلاثةُ ألبومات، أولها كان في سنة 1990 وتكرّمت في عدة مناسبات، ولم أكن بعيداً بفني عن قضايا شعبي يوماً.

 في عام 1995 قمتُ بافتتاح هذا المحل (ديلان) للآلات الموسيقية ومستلزماتها، وبدأت بتدريس الموسيقا فيما بعد، إلى جانب الفن كنت مُدرساً في مدارس قرى قامشلو والعديد من الأجيال قمت بتدريسهم في المدينة، لكن تمّ فصلي من وظيفتي لأسباب سياسية، رغم أنني لم أكن أمتهن السياسية أو أنضم إلى جهات حزبية في ذاك الحين.

 في بداية عام 2006قام مجموعةٌ من الفنانين في قامشلو بتأسيس اتّحاد الفنانين الكرد في سوريا، وكنت أنا من بينهم وكان لي تجربة في هذه الأمور، حيث كان محلي هذا مُلتقى  للعديد من الفنانين، وانتخبت رئيساً للاتحاد آنذاك، لكن لم يدُم الاتحاد طويلاً نظراً للظروف المادية وعدم توفّر جهاتٍ ومؤسسات داعمة للاتحاد، وبالرغم من ذلك كانت تجربةً ناجحة، حيث ضّم الاتحاد قرابة 35 فناناً من بينهم كان بافي لالش وكُلا كردي والعشرات من الأسماء الفنية المعروفة، أحيَينا بعضَ المناسبات والمهرجانات، وكانت أكثرها شهرةً تلك الحفلة الفنية التي أقمناها في جل آغا في 2006 حيث شارك فيها عددٌ كبير من الفنانين.

 الحديث مع الفنان سعد فرسو أخذ منحاً آخر، هنا تحدث لنا عن الفن والمؤسسات الراعية للفنّ وعن الموسيقا الكلاسيكية والراهنة والوسيطة بينهم :

أريد أن أقارن بين الفن في الماضي والحاضر بشكل مُختصر، الفنّ في الماضي، وأقصد الغناءَ والعزف، كان يحملُ طابعاً كلاسيكياً وكانت تعبّر عن تلك المرحلة بكل مضامينها، ويمكن القول إن المرحلة التي تلت الفترة الكلاسيكية كانت مرحلة الفنّ الملتزم والذي ظهرَ مع  الفنان محمد شيخو والعشرات من الفنانين في تلك المرحلة، وبعضهم لازالوا على قيد الحياة، وكانت هذه المرحلة أكثر تطوراً من سابقتها من حيث الألحان وأسلوب الغناء، وظهرت قاماتٌ فنية جديدة اتّبعت المقامات المتنوعة في اللحن الواحد، أما المرحلة الثالثة فهي كانت مرحلتنا، عاصرنا فيها هؤلاء الفنانين وأكملنا مسيرتهم الفنية وطوّرنا فيها، لكنّ ظهورَ الغناء المعاصر الذي أصبحت فيه المادة والشكل الخارجي هو الدارج، عصف بمرحلتنا الوسيطة بين الحديث والمعاصر، ولا ننسى أن جهاتٍ ومؤسساتٍ كانت وراء ظهور هذا الشكل من الغناء والموسيقا الهابطة، ولا يمكن ربط هذا الشكل من الغناء بالفن والموسيقا، كذلك لا يمكن اعتبار الاستعراضيين فنانين ومُلحنين.

 الجهاتُ والأحزاب السياسية الكردية لم تُعر اهتمامها بالثقافة والفن بتاتاً، بل كانوا يستخدمون الفنانَ لأغراضهم وغاياتهم الحزبية والشخصية الضيقة في تلك الفترة، ولا زالت بعض الأطراف تنتهج هذا الأسلوب. لقد بقيتُ على التشبث بمبادئ الفنّ الأصيل وخصوصياته وبأخلاقياته في تلك المعمعة والتجاذبات السياسية، وهذا ما أحاولُ الحفاظَ عليه. على الفنان أن يُثمّن ويقدّرَ قيمة الفنّ وقيمته كفنان، كذلك الأمر مطلوبٌ من  المؤسسات والأحزاب أيضاً، وأنا كفنان عانيتُ من التهميش وعدم التقدير، فبمجرد أن تلبي دعوة ما وتنهي واجبك كفنان تجاه الدعوة تتعرض للتهميش، هذه الظاهرة عامة وليست على مستوى روج آفا فقط، وإنما على مستوى باشور أيضاً، وهذا الأمر يؤثر سلباً على نفسية الفنان وقيمة الفن الذي يقدمه ويكرس حياته من أجل ذلك.

الفنان سعد فرسو يشبه محمد شيخو في العزف والصوت والأداء إلى حدٍ كبير، بهذا الصدد يقول الفنان فرسو: 

أنا أفتخر بذلك وأنا متأثرٌ به، كان صديقاً لأخي ولي أيضاً بعد أن عاد إلى قامشلو في الثمانينات، لكن لي أسلوبي الخاص في الغناء والعزف، ونهلتُ من مدرسة محمد شيخو، كذلك لي مسلكٌ فني تميز به عن الفنانين الكرد في روج آفا وعموم كردستان. في روج آفا العديدُ من الفنانين سواءً كانوا عازفين أو مغنّيين لم يلقوا حقهم في التقدير وبقوا بعيدين عن الأنظار نتيجة أوضاعهم المادية الصعبة ولم يجدوا من يساندهم ويساند فنَّهم.

في ختام الحوار سألنا الفنانَ سعد فرسو عن الحُلم الذي راوده وكان سبباً في إقالته من وظيفته، وعن الواقع الحالي في روج آفا :

 لقد مررنا بأوقاتٍ صعبة تخلّلتها جلساتٌ ممتعة مع الأصدقاء في  المحل الصغير هذا طيلة عشرين سنة تقريباً، وتعرّضنا لكل  أنواع التهميش والإنكار وحوربنا بشتى الوسائل، حتى الأحلام كانت بمثابة جريمة تُحاسب عليها من قبل أدوات النظام والسُلطة،  هذا الحلم كان ناجماً عن حقيقة المعاناة التي كنّا نعاني منها، ولم يكن الحلم هو السبب في إقالتي من وظيفتي الحكومية آنذاك، بل هذا كان أسلوبهم في محاربة الهوية الكردية، لكن لم نكن نرضخُ لهم ولجبروت سُلطتهم، أما فيما يتعلّق بالوقت الراهن  فقد حدثت تطوراتٌ كبيرة في روج آفا خلال الثورة، وهناك الكثير من المؤسسات والمراكز الثقافية، وما أود قوله بهذا الصدد: يجب أن يكون هناك اهتمام أكثر بالفنانين وأن تُقدّر قيمة الفنان ونحن بدورنا سنقدم كل ما يقع على عاتقنا في مجال الفن والموسيقا، فالفنان يواجه الكثير من الصعوبات المعيشية، فهو لا يستطيع أن يقدّم كل ما لديه من إمكانيات وأفكار لغياب المؤسسات الفنية الداعمة أسوة بالمؤسسات الفنية العربية والأوربية التي تتبنّى الفنانَ وتحافظُ على فنّه وإرثه الفني.

دوست ميرخان

زر الذهاب إلى الأعلى