مقالات

في اليومِ العالميّ للّغات

sliman-mhmodسليمان محمود

نافذةٌ على اللّغة:

ليستِ اللّغةُ وسيلةً للتفاهُمِ والتخاطُب بينَ النّاسِ وحسب، وإنّما هيَ الجانبُ الحضاريُّ الأكثرُ أهميّةً في حياةِ أيّةِ أُمّةٍ، لأنّها التعبيرُ الحيُّ عن النشاطِ الذّهني للأُمّةِ في مجالات الآدابِ والعلوم.

وخطرُ هذا الجانبِ الحضاري يتبدّى في أنّ اللغةَ ترودُ تقدُّمَ أيّةِ أُمّةٍ، ثمّ تستوعبُ جوانبَ هذا التقدُّمِ وتوثّقُها وتُرسّخها.

وقضيّةُ الوحدة الكُرديّة القائمة في الوجدانِ الكُرديّ وفي الكيان الكرديّ- رغمَ التمزُّق السياسيّ- يعودُ فضلُها الأكبرُ إلى هذه اللغة، التي أثبتتْ جدارتَها في الاستمرارِ عبرَ قرونٍ طويلةٍ حسبَ المصادرِ التاريخيّة والأدبيّة الموثّقة، والتي حفظَتِ الوحدةَ في المشاعرِ ونمطِ التفكير.

وأهميّةُ البحثِ في اللغة مَنوطةٌ بالرّغبةِ في الحفاظِ على كيانِ هذه الأمّة وعلى وحدتها القائمةِ في وجدانها، والعمل على تصفيةِ العوائقِ من أجل الوصولِ إلى الوحدة السياسيّة الكاملة.

إذا سلِمَتِ اللغةُ سلِمَ الفكرُ، وإذا سلِما معاً سلمتِ الأمّةُ. والأمّةُ التي تجهلُ أو تتجاهلُ قدرَ لُغتها بُنيةً، أسلوباً، إنتاجاً وإبداعاً ستدفعُ ثمنَ ذاك الموقف باهظاً من حياتها وحيوات أجيالها، من مبدأ أنّ الرصاصةَ التي يُطلقها الشّعبُ على لُغتهِ ستخترقُ فكرَهُ وحياتَهُ دونَ رحمةٍ أو استئذانٍ.

جمالُ لُغتنا الكُرديّة:

اللغةُ هي الجامعةُ التي تشدُّ إليها الكُردَ على اختلافِ مواقعهم في منافيهمِ الواسعة، وهي مرآةُ العقل الكُرديّ قديماً وحديثاً.

لقد شكّلتِ اللغةُ الكرديةُ رباطاً وثيقاً يؤلّفُ بينَ الجماعةِ الكُرديةِ، ووعاءً إنسانيّاً وحضارياً تختزنُ فيهِ ذكرياتها وتجاربها وجُلّ ثقافتها، وتصوغُ فيه أحلامَها وآمالَها. وقد حافظتْ هذهِ اللغةُ على بنائها، برغم كلّ المُحاولات الأجنبيّة ضدَّها في الماضي البعيد والقريب، ولابدّ أنّ هذه المُحافظةَ تعني شيئاً مُميّزاً، وهذا الشيءُ هو تجسيدُ التكوين النفسيّ المُشترَك الذي عاشتهُ الجماعةُ الكُرديّةُ.

وهنا يحضُرني قولُ أحد المُفكّرين:” إنّ اللغةَ جهازُ الاجتماع عندَ الإنسان، فاللغةُ والأمّةُ أمرانِ مُتكاملان”، ونريدُ هنا أنّ كلمةَ هذا المُفكّر قد لا تَصدُقُ على أيّ لغةٍ وأمّةٍ كما تصدقُ على الكُردِ ولُغتهم، لأنّ اللغةَ كما نعلمُ هي الوسيطُ الأساسيّ والأوّلُ للتواصُلِ.

مُعجزةُ اللغةِ لا تتمثّلُ في تكوّنها من بضعةِ أصواتٍ تُقابلها في الكتابةِ رموزٌ خطيّةٌ محدودةٌ فحسب، بل مُعجزتها في أنها تُثيرُ الرُعبَ في قلوب الظالمين ممّن يخافونَ استخدامَ اللغةِ سلاحاً في المُواجهةِ المصيريّة في وجهِ أسلحة الفتكِ والقتل والتدمير.

لُغتُنا بحاجةٍ إلى اهتمامٍ أكبر:

كم نحنُ بحاجةٍ إلى التنقيبِ عمّا في لُغتنا من ثروةٍ، نحنُ في أمسِّ الحاجةِ إليها لتكونَ لنا رصيداً ومعواناً نستمدُّ منهُ مُقوّماتِ بناء شخصيّتنا المُميّزة الواضحة، فهذا أمرٌ لا يحظى باهتمامِ مُتسّعٍ يتّفقُ وسرعةَ حركةِ الحياة وآلتِها ومُتطلباتها المُتناميةِ، كما لا يتّفقُ وحجمَ الطموح والتطلّعات الراهنةِ المُستقبليّة. وقد يكونُ في مثلِ هذا الكلام ما هو موضع دهشةٍ واستغرابٍ، إذا ما قِسناهُ بعملية التنقيب عن النفطِ أو الثروة المائيّة، لاعتقادِ الناس بأنّ هذهِ الأخيرةَ فعلاً ثرواتٌ، أمّ اللغةُ فما صلتُها بذلكَ؟

وهنا لا أودُّ الإطافةَ بمُقوّمات الحضاراتِ العُظمى في التاريخِ، أو بالثورات الكبرى التي فرضتْ نفسَها وحقّقتِ الانتصارَ والمكانةَ والاستمرارَ، ثمّ القولُ-على ذلكَ- إنّ مُقوّماتها الأساسيّةَ كانتِ الفكرُ الذي وعاؤُهُ وأداتهُ اللغةُ، فالفكرُ واللغةُ قرينانِ لا انفكاكَ لأحدهما عن الآخر، ولا معنى لأحدهما بدون الآخر، وذلكَ كان الأساسُ المتينُ للثوراتِ الكُبرى التي استطاعتْ أن تقفَ على أقدامها ثمّ تصيرُ-فيما بعدُ- ثورات الصناعة أو الآلة أو الاقتصاد.

إنّ لغتَنا اليومَ في تدهورٍ لا ينكرهُ مُهتمٌ بها أو مُخلصٌ لها، وصورُ هذا التدهورِ غيرُ خافيةٍ، والترخيصُ في انحرافها نحو العاميّة تزدادُ رقعتهُ يوماً بعدَ يوم، مرّةً تحتَ شعار إرضاء العامّة في إيصال الفِكَرِ، ومرةً انسياقاً مع دعوات المُتأثرين بالثقافات الأجنبيّة ممّن يأنفونَ من إتقان الكرديّة.

ليسَ المقصودُ القول- قبل هذا وبعده- إنّ لُغتَنا مُهمَلةٌ كُليّة، أو لا تجدُ مَن يُعلي من شأنها، إنّما هي لا تلقى العنايةَ المَرجوّةَ ولا الرعايةَ الكافيةَ الواجبة.

صحيحٌ أنّ هناكَ مُحاولاتٌ، ولكن نتائجها تكادُ تكونُ وقفاً على دوافعها: النيّةُ مُخلصةٌ ولكنّ النتائجَ دونَ النيّاتِ.

فمن أجل ألاّ تكونَ تلكَ الشّكوى التي نوشكُ أن نسمعَها، أو نلمس ما يُملي علينا أن نشيرَ إليها قبلاً، من أجل ذلكَ يحسنُ أن نولي لغتَنا من الاهتمام ما يجعلُ جهودنا أكثر مردوداً وجدوىً.

السّقوطُ الأوّلُ لجماعةٍ، لأمّةٍ، لشعبٍ يبدأُ من سقوطِ لُغتها، والغلَبةُ العُظمى لها هي غلَبةُ لُغتها، والتمثيلُ الأقوى لشخصيّة الشّعب يكونُ في هوّيتها، ولا قيمةَ للهُويّة دونَ اللغة.

بالّلغةِ يمكنُ أن تنتشرَ المحبّةُ بين الشّعوب أيضاً، يبقى علينا أن نُحسنَ استخدامَ اللغة.

في يومِ اللّغاتِ الأمّ تعلّمَ الكُردُ عشراتِ اللُغاتِ، ليُحقّقوا اندماجَهُم مع العالَمِ، ما أعظمَ شعبَنا!

زر الذهاب إلى الأعلى