دراسات

         في الكوانتوم المجتمعي

sihanok-dibo سيهانوك ديبو
يمكن توسيم المرحلة الكونية المُعاشة و/أو توصيف النظام الجديد للعالم بأنه يتجه إلى النتيجة المسماة بالصراع اللانهائي أو الصراع بلا نهاية؛ ومثل هذا النعت يستمد كينونته من العناصر المتناقضة والمعايير المتبدلة التي أدت إلى تشكيل هذه السمة، فقد نشهد الفوضى بنوعيها: الخلاقة والهدامة، وقد نشهد انحسار وطغي للأنظمة المتصارعة في الوقت نفسه، وسيستمر مثل هذا الوضع طالما الاصرار على النظر وفق المرايا المحدبة والمقعرة للوقائع المحركة أساسا لحركية التاريخ ولمستقبل مثل هذا التاريخ، والاصرار على النظر إلى ما يحدث في العالم بعيون “البعض” وتلك هي المعضلة الكلياتيّة؛ والمعضلة السورية جزء من هذا المشهد المعقد، وحتى يُصار إلى الحل لا بد من البحث عن الحل وفق طريقة سقراط: اعرف نفسك بنفسك؛ وعلى طريقة نقض الفرض؛ فإنه وبالتأكيد ما يقصده سقراط أن يقول: لا تعرف نفسك عن طريق الآخرين فقط، فهل يمكن تعميم ذلك في فهم الأزمة السورية التي تفتقد – حتى اللحظة- إلى حل سوري؛ بطعم سوري؛ يعتريه ملح سوري؛ سيّما إذا ما استثنينا مشروع الحل المتمثل في تحول ديمقراطي سوري إلى إدارات ذاتية ديمقراطية على شاكلة الإدارة الذاتية الديمقراطية في روج آفا/ الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا؟

 وإذا ما استثنيناه؛ فجعابنا تكون مثل جعاب الغير (خارج سوريا) فارغة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وهذا بالتأكيد لن يمنع من مقاربة فكرية للأزمة السورية، بسبب أنّ أصل وجذر كل أزمة هي أزمة في الفكر وفي الأيديولوجية التي تنتجها أو تحلها، والأزمة الفكرية في الشرق الأوسط تحيلنا إلى البحث والكشف عن المستور – بمنهجية- فيما يخص مستويات تصدع الفكر وأزمته، وعن الغبار المعتلي بشكل طبقات متعددة على الجسيم الطاقيّ أو القوة الخالقة لجميع أشكال الحل والتنوع والمستمخضان في السعي الدؤوب عن الحرية، ونعت هذا الجسيم المتدفق ( الكوانتوم)؛ بأنه مصدر الطاقة؛ ومصدر التنوع رغم الحالة الظاهرية المحبوسة؛ وأن ما وراء الكون يتسم بطابع كوانتي أيضا كما يقول أوجلان.

يعتبر مبدأي الريبة (عدم اليقين) و التكاملية أو التتامية؛ من أبرز ما اعتمدت عليه النظرية الكوانتية  أو ربما من أجلها تم التأسيس لها في العام 1927 وعرفت بالفيزياء الكوانتية؛ الابنة البارة للفيزياء الذرية كعلم مختص في دراسة خواص المادة عن طريق دراسة أجزاء الذرة، بينما الكوانتية اختصت بمفهومي الحقيقة والواقع الذي ينشأ من ضمنهما هذه الأجزاء (الذرات)، وتصدت هذه النظرية كما كل النظريات الجديدة لصعوبات تبيان الخصائص المراد فهمها؛ فبدت مشكلتين أساسيتين متمثلتين بالطاقة الناجمة للقُسيمات التي تُجمع كي تنتج الطاقة وهذه هي مسألة التباعد والتي حلت لاحقا وفق مفهوم التسوية، أما فيما يتعلق بإمكانية حصر وجمع الأعداد الهائلة للقُسيمات؛ فلا يزال العلماء مقبلون على التعرف عليها واكتشافها وما زالت قيد النقاش رغم تعميمها في مبدأ التتام الحقيقي ( المكتشف) والتتام المنتظر(لما يتم اكتشافه).

ويمكن تلخيص حيثيات مسألة عدم استطاعة النظرية أن تبرز بشكل واضح؛ إلى ثلاث أفكار رئيسية (معترضات):

الأولى؛ معترضة الحقيقة: التي تتعلق بالسؤال الذي يبحث في الأجزاء الأساسية في الفيزياء كالذرات والالكترونات وغيرها؛ هل يمكن أن تكون هذه الأجزاء موجودة بشكل مستقل عن الكائنات الحية وحراكيتها؟

الثانية؛ معترضة الفهم: وهي المتعلقة بفهم الصيرورات الذرية وتحولها إلى أشكال مختلفة عن الأجزاء التي كونتها، وهل يمكن من خلال هذا الفهم أن نتوصل إلى احداث نماذج نظرية تتوافق مع الحقيقة متجاوزة معترضتها؟

الثالثة؛ معترضة السببية: وهي المتعلقة بإمكانية كشف الأسباب التي تؤدي إلى أي نتيجة نلاحظها في حيواتنا.

وبالتأكيد مازال عدم الوضوح في تناول مثل هذه النظرية قائما وملحا؛ لأن العلم لم يستطع حتى اللحظة أن يجيب بفعالية عن الاشكالية المستديمة التالية: الحقائق الموضوعية هل يمكن أن تمثل العلم؟ أم أن المسألة متعدية إلى المتعلق بالعناصر التي تكوّن الحقيقة الموضوعية وهذه العناصر ناتجة عن المعتقدات الفلسفية؟

وعلى الرغم من أن هذه النظرية قد أفرزت حجما كبيرا من التوقعات والنتائج الدقيقة؛ لكن لا يمكن اعتبارها سوى النظرية غير الكاملة، خاصة أنها لم تعر اهتماما ولم تعط الحيز المطلوب للقسيمات التي لم يتم اكتشافها ودور هذه القسيمات في التحولات المعرفية التي تحدثها بدورها، وأمر آخر ما عجزت فلسفة الكوانتوم النظري بالإحاطة به هي عدم معرفتها لقوة القسيم ومكانه في الآن ذاته.

وبسبب عدم الاتفاق في تعريف هذه النظرية المهمة والمعقدة؛ ليس بسبب يتعلق بالنسبية؛ حيث أن النسبية هي نظرية أكثر من أن تكون ممارسة أو مصنفة ضمن ” وجهات النظر”؛ أمران مختلفان تماما؛ وعدم الاتفاق ذي شأن في مسألة مهمة متعلقة بتعريف واحد لعلم الاجتماع. من حيث أن تعريف علم الاجتماع ليس أمرا سهلا أو هينا، و ذلك لأن تعريف علم الاجتماع أمر مرتبط ارتباطا تاما بموضوعه و بمنهجه بل و بعلاقته بالعلوم الاجتماعية و غير الاجتماعية، من هنا تعددت التعاريف بتعدد العلماء و بتعدد النظريات و المذاهب الاجتماعية المختلفة؛ لكن يمكن أن نعرف علم الاجتماع ضمن تعريفين؛ الأول من قبل مكتشفها؛ الفيلسوف الوضعي أوغست كونت في العام 1838 والثاني من قبل أوجلان كفيلسوف ومنظر للانتقال من الوضعية إلى المجتمع الطبيعي وفق كوانتومات ( قُسيمات الطاقة المجتمعية والمتحددة بالذهنية والوعي الثوري بعد تحقيق المجتمع الأخلاقي والمجتمع السياسي وأخيراً الديمقراطي). ومن المفيد هنا، استعراض هذين المفهومين اللذان يُجْمِلان كافة الإطارات المختلفة من المفاهيم العامة في النظرية السوسيولوجية

– يعتبر أوغست كونت أول من طبق مصطلح علم الاجتماع السوسيولوجي  وقد كان يريد أن يطلق على العلم الجديد الفيزياء الاجتماعية ويعرفه بأنه: “دراسة الخصائص العامة المشتركة بين أنواع الظواهر الاجتماعية، لذلك تقتضي هذه الدراسة:

آ- دراسة العلاقات والارتباطات بين الأنواع المختلفة من الظواهر الاجتماعية كالعلاقة بين الدين والاقتصاد مثلا.

ب- دراسة العلاقات والارتباطات بين الظواهر الاجتماعية وغير الاجتماعية كالجغرافيا والبيولوجيا
ح- دراسة الخصائص العامة المشتركة بين كل أنواع الظواهر الاجتماعية التي تعتبر محسنة للدراسات السابقة.

بينما يعرف أوجلان علم الاجتماع بأنه (دراسةِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ كَكُلٍّ متكاملٍ ضمن جميعِ الأمكنةِ والأزمنةِ دون الاقتصارِ على تحليلِ الأزمةِ والمشكلةِ فقط، ينبغي عليه أداءَ دورِه الرياديِّ كَمَلِكِ العُلوم، سواءً تلك المرتبطة أساساً بالمجتمعِ كالفيزياءِ والكيمياءِ والبيولوجيا والكوسمولوجيا، أو العلوم الإنسانية من قبيلِ الفلسفةِ والأدبِ والفن. فمن غيرِ الممكن رسم شجرةِ أصولِ العلمِ إلا في جذورِ علمِ الاجتماع) ووفق تعريف أوجلان فإذا كانت الفلسفة أم العلوم فإن علم الاجتماع هو مَلَكُها.

ولعل من المهم (جدا) المقاربة بين العلوم البيولوجية والعلوم الاجتماعية؛ لكن؛ ليس مثل ما أراده الوضعيين للحصول على نتائج دقيقة للظاهرة الاجتماعية حتى يتم افراغها من مضمونها، وهذا أمر أشبه بالمستحيل، إذْ لا يمكن القياس؛ بسبب التغيير الحاصل في الظاهرة الاجتماعية التي تتعدى الطبيعية وفيزيائيتها بعشرات آلاف المرات؛ الظاهرة الفيزيائية للطبيعة تختنق في عارضين امكانية معرفتها (شكلها) وتموضعها في الآن ذاته، بينما الظاهرة الاجتماعية كظاهرة صرفة لا يمكن معرفتها إلا بالشكل الكلي؛ وهذه ما يؤكدها أوجلان بالطبيعة الاجتماعية الكلية الكاملة، وحددها في مسألة الحرية، ويعتقد:( إنَّ العلومَ الاجتماعيةَ المُراد تطويرَها بمفهومِ العلم الوضعي، أو بتعبيرٍ آخَر ببراديغماه، بَقِيَت عالقةَ في ردبٍ مسدود. وإلا، فلن نستطيعَ إيضاحَ ظاهرةِ الاستعمار والحروبِ المتصاعدة لهذه الدرجة. محالٌ أنْ يَكُونَ رجلُ العلم أقلَّ مسؤوليةً إزاءَ المجتمع من رجلِ دينٍ أو رجلِ أخلاق. ما دامَ العلمُ يُشَكِّلُ قوةَ معانٍ أرفعَ مستوىً مقارنةً بالميثولوجيا والدين والفلسفة، ورغمَ إنجازه ثورتَه وإعلانِ انتصارِهِ (في القرن السابع عشر)؛ فلماذا إذن عَجِزَ عن إبداء قدرتِه وتفوقه هذا تجاه ظواهرِ الحربِ والاستغلال؟ بالمقدور الإشارة إلى سلطويةِ العلم كعلةٍ أساسيةٍ في ذلك. فعندما يَغدو العلمُ سلطة، يَفقُدُ حريتَه دون بُد).

أي أن مسألة الحرية حتى تكون وحتى تتحقق لا بد عدم الارتهان والاعتماد والتذاكي على الخارج فقط، لأن مسألة الحرية متعلقة بالكوانتوم المجتمعي، بِكُلِّ الأفراد في أي مجتمع معني بالتغيير، بِكُلِّ المؤسسات في أي مجتمع ينحو إلى التحول؛ بِكُلِّ العلاقات الناتجة بين الأفراد النديين وليسوا التابعين والمُسيّرين والمُدارين وفق الذكاء التحليلي الناظر إليهم أنهم مجرد أفواه لا عقول، يمكن عبرها وعبر عناصرها ( الأفراد) وعبر تفاعلها؛ من حيث أنه (كلها) يؤدي بشكل منفرد أو مجتمع إلى مسائل الطاقة المجتمعية التغييرية؛ وهذا ما يمكن تسميته بقوة الكوانتوم التحولية. وأعتقد أن هذه القوة تكمن بشكل متمايز في الكومون (الكومين)، وهذا هو السبب الأبرز في تنظيم المجتمعات ومأسستها وتحويلها إلى مجموعات هائلة من الكومونات حتى الحفاظ على كافة أشكال الطاقة المجتمعية، ومنعها من الضياع  والتشتت، وإذا كان الكومون أبرز القُسيمات المجتمعات، فلأنها أصغر الخلايا النوعية التي تجتمع بأدرية وبمعرفة ومن خلال ذهنية ثورية وليس بجمعها واحتشادها، وإذا كان الكومون مصدر الطاقة نحو الحرية فلأنها تضمن تنظيم المجتمع وتمنع في الوقت نفسه دخول ثقافات غريبة إلى المجتمع بعد فشلها إيجاد حاضنة لها.

أن كلَّ شيء في المجتمع الديمقراطي يتم وكأن القُسَيْمات (الكومونات) على اتصال آنيٍّ ودائم بعضها مع بعض، وهذا المدخل الأساس لفهم ماهية الكوانتوم المجتمعي، بل يجب خلق كومونات نوعية ومنتشرة، تتحرك بمسؤولية في الفراغ الحاصل في المجتمع والذي أحدثته السلطوية والاستبداد (الخارجي والداخلي) في الكلِّ الذي لا يتجزأ، وإنْ كان منفصلاً في المجتمع، فإنه في الواقع على اتصال أو (اتحاد) مع كلِّ العناصر المجتمعية الأخرى. ويتبدى رؤية الطاقة المتولدة عن الكوانتوم المجتمعي من خلال مسألة التفاعل والارتباط بين القُسَيْمات (الكومونات) في البحث عن مسألة الحرية بل من أجل تحقيقها.

وفَهْمِ الكوانتوم المجتمعي يمكن تعميمه في الأزمة السورية التي نعيشها أيضا، فإصرار بعض الرؤى غير الملبية بل المعترضة في طريق التغيير؛ على اقصاء مكونات المجتمع السوري (القسيمات) (الأجزاء) هي بمثابة احتجاز تلك الطاقات في كلياتية المجتمع السوري، وأما الاكتفاء – بالنسبة للكُرد في سوريا- على حق المواطنة والحق الثقافي وحده؛ فهذا بمثابة احتجاز وتغييب لقوة الكوانتوم المجتمعي للكرد كجزء من الكل السوري، وهذا بالضرورة يؤدي إلى المزيد من التحاجز، بل ومن المؤكد أن الاصرار على النظر إلى القضية الكردية في سوريا بمطلبي المواطنة والحق الثقافي هي بمثابة الاصرار على حصارها؛ ومثل هذا الحصار ومثل ما شابهه من ممارسات استبدادية بحق عموم الشعب السوري؛ كان السبب في الحراك الثوري السوري، وما يزال هو السبب في الاصرار الذي يقابله على التغيير الذي نحتاجه، والتحول الذي ننشده وعلى أساس التأكيد على الجزء كمقدمة للتأكيد على الكل؛ غير ذلك – أعتقده- انتاج جديد للسلطوية والاستبداد وحينها بانتظار انفجار جديد في الكوانتوم المجتمعي السوري وبشكل كليّ.

قالها فولتير يوماً: “نحن في قرن تم قهر كل الأخطاء تقريباً في الفيزياء”، والزمن الذي تحدث فيه فولتير كان مشهود بصراع بين العلوم التجريبية الفيزيائية وبين الميتافيزيقيا، وربما مثل هذا الدلوِ أتى في سياق البحث عن صيغة مُثلى لفهم حقيقة الكون، مما دعا العلماء للتأرجح بين الواقع كما هو واقع وبين الافتراضي الذي يفسر ماهية الكون. وتعتبر نظرية الكوانتوم أو الكم من أبرز النظريات الثورية، وانتقلت مثل مثيلاتها من العلوم الفيزيائية إلى المنحى الاجتماعي وبشكل كبير على يد الفيلسوف عبدالله أوجلان؛ داعيّاً  أن تُعَرَّفْ تعرف بالكوانتوم المجتمعي؛ والذي يدل على الطاقة المنبعثة من أصغر قُسيم؛ جُسيم؛ خلية في المجتمع، والفهم الصريح للواقع؛ هو الفهم المنفتح على كل أجزاء المجتمع؛ لأنها وبكليتها تمثل أنواع مختلفة من الطاقات تسهم بقوة ونوعية في التحول المجتمعي والتغيير الثوري في المجتمعات. وثورة روج آفا الكمومية أو الكوانتومية المجتمعية تدفقت من خلالها أنماط وأطياف وممثلي شعب روج آفا وشمال سوريا حتى وصلت اليوم –مجتمعة- إلى أن تصبح اللاعب الأساس في سوريا والمنطقة وذلك من خلال مشروع الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا.

زر الذهاب إلى الأعلى