ثقافة

شخصيةٌ في فضاء الفن والفلسفة والشعر

inayat-%e2%80%ab1%e2%80%ac-%e2%80%ab%e2%80%ac inayatكتَبَ عن أعمالهِ عددٌ كبيرٌ من النقّاد منهم: “جان مونيه”، و”آلين ماريز”، و”جاك ألتراك” الذي قال عن تجربته: «إن رسوم “عنايت” جذابة، فاتنة، حية وديناميكية، إنها لا تروي التاريخ، ولا تعبّر عن فعل فقط ولكنها تطرح علينا الأسئلة وتحرض مخيلتنا».‏  وقال ذات مرة عن تجربته:” يمثل لي القلق في سياق الفن، محرك وباعث التحريض الأولي، هو بدء الشرارة في تفجر الملكات والموهبة، إذ تنضج الرؤى (ما قبل الفعل)، كأن هذا القلق رسخ من أمدٍ طويلٍ في مخيلتي الحبلى، وهذا يفسر عمليا أن العمل الفني لدي هو ذلك المولود الذي يرى النور، بعد اعتصار وامتزاج مراحل ومكونات تلك العملية”.

أما عن الوجه في لوحاته فقد قال عنها:” من المؤكد أن الوجوه في لوحاتي تكثيف لحالاتي وحضوري وغيابي، تاريخ الأماكن والتوابل والقوافل وانكسارات المرايا، إنها جميع منافذي إلى الفضاء الآخر القابع في الذات، بل المفاتيح الذهبية لتقاسم العشق ونكهات فاكهة الأرض وسكرة المنتهى، إنها الأنا المتحول حباً وفرحاً وألماً..، دواوينُ شعرٍ ومحافلُ غناء، وكتبُ تاريخ وملاحم

وأيضا هي حقول حنطة وأشجار زيتون، هو هذا مشروعي التشكيلي.

 ويضيف في أحدا مقابلاته، أن التداعيات المختلفة يمكن شرحها بأشكال الولادة واختلاف المولود، من فنانٍ لآخر ومن تجربةٍ إلى أخرى، وكذلك الدهشة فقد يكون العادي العابر البسيط من الأمور الطبيعية بالنسبة لآخرين، بينما هو عودُ ثقاب اشتعالي، أو عاصفةٌ تخلعني من السكون إلى المواجهة، حتى يتم القبض على زمامها. الفنان التشكيلي “عنايت عطار”، من مواليد عفرين عام /1948/ ترعرع بين أشجار الزيتون، وعمل فيقطف الزيتون إلى جانب القرويين في مواسم القطاف، انتقل إلى مدينة “الرقة”، وهناك ساهم مع عددٍ من الفنانين التشكيليين، بتأسيس تجمع فناني “الرقة”، وقد قدم “العطار” أول معرض فردي له في مدينة “الرقة”، وذلك في صالة المركز الثقافي، عام /1981/، أمضى أكثر من ثلاث عشرة سنة في مدينة “الرقة”، قدم خلالها الكثير من الأعمال الفنية، التي ساهمت برفد الحركة التشكيلية السورية بشكلٍ عام، وفي منتصف الثمانينيات سافر إلى فرنسا واستقرا فيها، هناك حقق شهرةً عالمية، ولاقت المعارض التي أقامها هناك أصداءً واسعةً في الوسط النقدي التشكيلي الفرنسي، وأنشأ هناكَ مدرسةً للرسم، وتتدرب على يديه العديد من الطلبة الفرنسيين.

 كان “عنايت” يهاجم النزعة الفلسفية التي تمجد العِلم، الذي يدعي السيطرة على كل شيء بشكلٍ مطلق، فقد كان يرى أن الفكر ليس له أن ينتظر شيئاً من العلم، وكان يستشهد دائماً بقول الباحث “كويريه” الذي كان يرى بأن القول العلمي عند “أرسطو”، غيره عند “جاليليو”، والمعرفة الرياضية القديمة، تختلف عن المعرفة الفيزيائية الرياضية الحديثة، التي وصل إليها العلم الحديث، لكن الفن هو الخروج عن المحدودية القاعدية، التي هي أساس العلم، كما كان يرفض منطق الفرنسي “دوليه” الذي يقول: لا شيء يتغير، لأن المستقبل ليس إمكان الممكن، بل هو امتداد سلسلة من الأمور المحتملة.

 عنايت كان يردد دائماً مقولةً لأحد المفكرين، حيث يقول: «إن الإنسان بوصفه روحاً، هو المعاصر للعلو الذي يخترقه»، قال عنه الفنان والناقد السوري “طاهر البني”، وهو يتحدث عن لوحات “عنايت عطار”: «نستطيع أن نلمح ماهية التشخيص المبسّط من خلال التركيز على الجسد بمظهره العام وتجاهل التفاصيل والجزئيات فيه، حيث يبرز الوجه في الوقت الذي تغيب فيه العيون والأنف والشفاه، كما تبرز الأطراف في حركة انسيابية تختفي فيها تفاصيل الأرداف والأصابع، وهذا التركيز على الكتلة الكلية، يفسح المجال أمام اللعب باللون وتدرجاته، كما يحفّز المتلقي على التأمل، واستحضار علاقات الغياب في اللوحة، عبر علاقات الحضور المجسّدة أمامه، وتبدو الألوان سيدة التكوين، حيث تذوب فيها الأجساد والمساحات مشكّلة قصيدة بصرية في تناغمها ودلالاتها»، وقد كان “عنايت” يكتب الشعر، وكان للمرأة نصيب كبير في قصائده، فهو يقول في إحداها: الأزرق للسماء، والأخضر للجبال، والأصفر للسنابل، والأحمر للمرأة، لا..لا، أيها الصديق، لقد أخطأت الترتيب، والنسبة والدلالة..! بل الأزرق والأصفر والأخضر والأحمر لها وحدها، للمرأة التي أحب وأعشق، وللمرأة التي أرسم وأتخيّل..! لا مسافات، ولا حدود، لا تقل لي إن المرأة رمز للوطن، أو للبحر، أو للكرامة، أو للحب..! لا أبداً أيها الصديق..! فالمرأة عندي هي البحر والوطن والأفق والكرامة والحب والغيرة، والحزن والجنون أيضاً..! وقد امتزجت في سيمفونية لونية واحدة متكاملـــة ومتناغمة..!».

الفنان عنايت عطار الذي يعد أحد أعلام الفن التشكيلي في العالم، وأحد الرموز في تاريخها الفني المعاصر، يعد من الفنانين الملتزمين بقضايا المرأة فكراً وفناً، فطالما كانت لوحاته تتحدث عن انعتاق المرأة، من التقاليد البالية وقيودها الاجتماعية المتخلفة والجاهلة.

 فنانا كان يعمل في نجارة الديكور الداخلي، وكتابة الإعلان، ولكن بطريقته وأسلوبه الخاص، وهذا ما ترك أثراً كبيراً في نفوس من عملوا عنده أو معه، متأثرين بأسلوبه في كتابة الإعلان أو أسلوب اللون، والعبثية التي تسيطر عليه خلال الرسم، وحتى في أسلوب حياته اليومية، التي كانت تسودها أحياناً فوضى المواعيد، وتغلب عليها المصادفات، فهو حين يخرج ليأتي بربطة خبز لأسرته، يلتقي بصديق يعرض عليه السفر خارج المدينة بذات اللحظة فلا يتردد “عنايت” ناسياً الخبز وأهله، هذا ما قال عنه أحد أصدقائه. يقول عنه الفنان السوري ايمن ناصر، “أن عنايت تشكيلي فريد من نوعه، فنان ضاق به المكان فحلق بعيداً إلى بلاد الغرب، له بصمات بيضاء ومشرقة في مدينة الرقة ومع الكثير من أهلها، وكان آخر ما يفكر فيه هو أن يتقاضى أتعابه كاملة، يكفيه أنه يكثف حضوره في أي عمل يقوم بتنفيذه، ذلك التكثيف الذي يحيل الرموز في عمله إلى مجموعة من الأسئلة “.

أما الكاتب والناقد “نذير جعفر” فقد قال عن تجربة الفنان عنايت عطار: “عنايت” محسوب تشكيلياً على جيل السبعينيات، وهذا ما يقرّ ويعترف به، لكنه غير محسوب على هذا الجيل، من حيث علاقته بالحياة، فهو بقبّعته الرصاصية، وقميصه الترابي، وحذائه المخملي، وفوضويته، وتجواله الدائم ما بين الرقّة” و”حلب” و”دمشق” و”باريس” و”برلين” و”اسطنبول”، عاشق أبدي ومغامر لا يتوقف “.

ارتاد الفنان عنايت الآفاق المجهولة، واكتسب علاقات وصداقات جديدة في كل مرحلة من حياته، ورمم الانكسارات القاسية في حياته، كان فنان وأب وعاشق، وكتاب للشعر، ومصمم للديكور والإعلان، في فرنسا بدأت تتنامى نزعة التجريب عنده، كما بدأت أعماله تتحرّر من الصيغ والقوالب المعهودة والاتجاهات السائدة، واضعاً نصب عينيه تأسيس خطابه الفني الخاص به، حيث بدأ يميل أكثر فأكثر، نحو التجريد دون أن يتخلّى كلياً عن واقعيته التعبيرية الصرفة في بعض الأعمال» .‏

إن البيئات المتعددة التي عاش فيها “عنايت” وتنقّل فيما بينها تركت أثرها في موضوعاته وأدواته وتقنياته، فالفترة الطويلة التي عاشها في “الرقة” المتاخمة للفرات من جهة، وللصحراء من جهة ثانية، جعلته يحسم اختياره باتجاه التشكيل، بعدما اهتم في البدايات بالنحت، كما دفعته إلى الخروج عن إطار الفضاءات المغلقة، إلى الفضاء الواسع، مستلهماً موضوعاته من الطبيعة وتحولاتها، ما بين الجدب والخصب، والمرأة وتشكّلاتها الواقعية التعبيرية، عبر علاقتـها بالطبيعة وبالرجل والوسط المحيط، بضربات لونية حادة حيناً ورقيقة شفّافة حيناً آخر، أما في “حلب” فقد برز اهتمامه بالعمارة وتشكيلاتها الشرقية، محاولاً إعادة إنتاجها فنياً، وفق رؤية تجمع بين التجريد والتشخيص، بعيداً عن الطابع الفوتوغرافي، الذي انشغل فيه عدد كبير من فناني المدينة، استجابة لمتطلبات السوق والذائقة التقليدية، التي تبحث عما تزيّن به صالوناتها المخملية، أكثر من بحثها عن القيمة الفنية للّوحة، وظل “عنايت” يقاوم حمىّ الاستهلاك والنظر إلى اللوحة بوصفها سلعة، فقد كان إخلاصه لحساسيته ورؤيته الفنية، أهم بكثير عنده من تسويق لوحاته تحت أي ضغط أو ثمن كان.

للفنان عنايت عطار أبنٌ يدعى  لوند عطار  وهو أيضاً رسامٌ  احترف الرسم مثل أبيه الفنان ويقيم في فرنسا أيضاً، وقد أقام عدة معارض في فرنسا، وحاز على عدد كبير من الجوائز داخل فرنسا وخارجها وله تجربة جديدة في النحت: (في عمق البحر)، حيث أقام معرضه الأول في صالة أنشئت خصيصاً لهذا لمعرض .

والجدير ذكره أن الفنان التشكيلي “عنايت عطار”، هو عضو نقابة الفنون الجميلة في سورية، وعضو جمعية الفنون البصرية في فرنسا spadem وعضو جمعية أصدقاء الفن في “نانت” وعضو نقابة الفنانين الفرنسيين، وعضو منظمة اليونسكو للفنانين العالميين، ومن أهم المعارض الفردية التي أقامها في سورية، حسب ترتيبها الزمني، هي: المركز الثقافي “الرقة” /1981/، المركز الثقافي “الحسكة”/1983/، والمركز الثقافي الروسي في “دمشق” /1986/، والمتحف الوطني “حلب” /1986/، ونادي العمل الثقافي “اللاذقية” /1987/، وصالة الفنون الجميلة “حمص” /1988/، وصالة “الجوشن” في “حلب”/1991/، كما عمل الفنان “عنايت” في الديكور المسرحي، ونشر رسوم (غرافيكية) في الصحافة العربية والفرنسية، وكتب الشعر والنقد الفني، وهو مقيم حالياً في منطقة المان الفرنسية، ومتفرغ للعمل الفني هناك.

زر الذهاب إلى الأعلى