مقالات

تعالَوا نتعلّم كيفَ نختلف

sliman-mehmudسليمان محمود

من الطبيعيّ وجودُ الاختلافِ في الحياة البشريّة، ففيهِ استطاعَ الإنسانُ البحثَ والتقدّمَ وتكوينَ علومهِ ومعارفهِ، إلاّ أنّ ذلكَ الاختلافَ يغدو في الكثيرِ من الأحوالِ مصدرَ قلقٍ بشريّ، ولا سيّما إذا انتهى الأمرُ بالمُتجادلين إلى العُنفِ وسفكِ الدّماء.

وعلى أيّة حالٍ فإنّ ثمّةَ مُستوياتٍ رئيسيّةٍ ثلاث تتراءى أمامَ الباحثِ في دهاليزِ فلسفة الاختلافِ الإنسانيّ وما ترتكزُ عليه من دوافعَ ومُبرّراتٍ وما تنتهي إليهِ من أهدافٍ وغاياتٍ، هي الاختلافُ العلميّ والفكريّ والسياسيّ.

والنّاظرُ في حال الأمّة هذه الأيّام يتلمّسُ اختلافاً فكريّاً عظيماً بينَ أفراد المُجتمعِ رُبّما يقودُنا، إن لم يكن فعل، إلى أتونِ حربٍ فكريّةٍ عقائديّة لا نهايةَ لها إلاّ بالذلّ والهوان. بينما يدفعُنا ذلكَ إلى اختلافٍ سياسيّ يتحدّثُ فيه أفرادُ المجتمعِ من دونَ فهمٍ واضحٍ لتعقيداتهِ واستراتيجيّاته. ويظلُّ الاختلافُ العلميّ محصوراً في العلوم الدينيّة والشّرعيّة التي وقفَ عليها العربُ نائينَ بأنفسهم عن اختلافٍ في العلوم الكونيّة، فكانَ خلافُهم العلمي الشرعيّ مُنطلقاً من اختلافٍ فكريٍ راسخٍ.

ولعلّ أبرزَ ما يتقاسمهُ هذا الاختلاف مع نظيره العلميّ من أوجه شبه وتباين يتجلّى في أنّ كلاً من الاختلاف الفكريّ والعلميّ من شأنهما الارتقاء أو الانحدار بمُستوى حاضر ومُستقبل الإنسان، ولكنّ موضع الاختلاف الدقيق بينهما يكمنُ في أنّ الاختلافَ الفكريّ بخلافِ نظيره العلميّ لا يُدفَعُ دفعاً نحو الهاوية بعواملَ سياسية، لأنهُ ببساطةٍ هو مَن يشكّلُ الأرضيّةَ الخصبةَ والقاعدةَ الحاضنة لجميع الأجندات السياسية المعروفة وتلك التي لم تُعرَف بعدُ حتى الآن، وأمامَ هذه المشكلة المُستعصية طالما عاشَ الناسُ مغلوبين على أمرهم حتى أولئك الذين يتخيّلون توهّماً أنهم هُم الغالبون.

واحتاجَ البشرُ مع هذه الورطة المُزرية إلى رسائلَ تأتيهم من عالمٍ فوقَ عالمهم المتفوّق، وهكذا فقد بعثت الإرادةُ الإلهيّة مع كلّ حقبةٍ من تاريخ الإنسانيّة بهُداةٍ تُضيءُ مشاعلُهم طُرقَ الظلام، إلاّ أنّ الفكرَ المُضادَ للنور كانَ وما يزالُ يتوصّلُ إلى ابتكاراتٍ ظلاميّة تُعيدُ الإنسانَ إلى مُربّعِ البدائيّة الأوّل، ألا وهو مربّع الحرب والاقتتال ودائماً على أُسسٍ فكريّة.

إنّ المطلوبَ من المجتمعات الإنسانية جميعاً أن تنتبهَ إلى عظم الخطر الذي يُشكّلهُ الاختلافُ الفكريُ بينهم، ولا سيّما المُرتكز على الأيديولوجيتين الدينيّة والقوميّة، وما ينبعثُ منهما من فروعٍ مذهبيةٍ وعرقيّة، وأن يتحمّلَ العُقلاءُ في هذه المجتمعات مسؤوليّةَ الإبقاء على مفاهيم التعايُش السلميّ بين الناس حاضرةً في الأذهان والتصرّفات، وبيان خطأ الفكرة التي تدعو إلى تنميطِ المجتمع بلونٍ ثقافيّ واحدٍ يقمعُ الهويّاتِ والثقافات التي شاءَ خالقُ الإنسان أن تكونَ مُتمايزةً أو مميّزةً كما في قوله تعالى( ولو شاءَ ربّكَ لجعلَ الناسَ أمّةً واحدةً ولا يزالونَ مُختلفين)، وأن يسعى العُقلاءُ جاهدينَ إلى نزعِ فتيلِ التطرُّف من الفلسفاتِ الفكريّة بكلّ أنواعها، إلى جانب التوعية الحثيثة بمضمار الاختلاف الفكريّ على شعوب العالم جميعاً وعدم السماح للنهج الفكريّ أن يستخدمَ أذرعاً سياسيّة قامعة تضرّ بأمن وسلامة الإنسان، وعليه فلابدّ منّ إقرار وحماية مبادىء حقوق الإنسان ذات العلاقة بحُريّة الكلمة وحقّ المُواطنة، وضرورة الإذعان إلى مفهوم تداول السُلطات في تلك الشعوب المُنطلقة بقوّة نحو ديمقراطيّة دفعتْ ثمنها أرواح بريئة.

الحقيقةُ أنّنا نفتقدُ في مشهدِنا الفكريّ والاجتماعيّ إلى نوعين من الأدب: أدبُ الاختلاف، وأدبُ الحوار. إنّ الاختلافَ في الرأي نتيجةٌ طبيعيّةٌ، تبعاً لاختلافِ الأفهامِ وتبايُنِ العقول وتمايُز مُستويات التفكير والثقافة، الأمرُ غيرُ الطبيعيّ أن يكونَ اختلافُنا في الرأي بوّابةً للخُصوماتِ، ومفتاحاً للعداوات، وشرارةً توقِدُ نارَ القطيعةِ بيننا.

إنّ مُمارسَ النّقدِ من دونِ معرفة أخلاقيّاتهِ وأصولهِ، كمُمارسة الطبّ من قبَلِ جاهلٍ أرعن، واختلافي معكَ أيّها الإنسانُ لا يعني أنّي أكرهُكَ أو أحتقركَ، بل يعني أنّي أحبُّكَ، حتى لو بقينا مُختلفينَ في الرأي الدّهرَ كلَّهُ، وإنّ عدمَ احترام رأي المُخالف وقطع الصّلة معهُ هو استبدادٌ خطيرٌ يحتاجُ إلى ربيعٍ فكريٍّ جديد.

العُقلاءُ ما زالوا يختلفونَ ويتحاورونَ في حدود( العقل)، دونَ أن يصلَ أثرُ خلافهم إلى( القلب).

علينا أن نُميّزَ بينَ أدب(الاختلاف)و(الخلاف).

أخطرُ ما في الخلاف أن تظنَّ أنّكَ تمتلكُ الحقيقةَ، لا أحدَ في العالم يمتلكُ الحقيقةَ.

عندما نُقدّمُ الآراءَ فهي للعرضِ لا للفرضِ، وللتكامُل لا للتلاكُم.

عندما نُحسنُ كيفَ نختلف، سنُحسنُ كيف نتطوّر.

زر الذهاب إلى الأعلى