ثقافة

أسطورةُ الطرَب الكُرديّ

muhmedshexoمحمّد شيخو، أحدُ أطولُ الفنّانين الكُرد قامةً، وأعذبهم صوتاً، وأصدقهم قوميّةً، وأعمقهم شعوراً، وأرفعهم عماداً. عاشَ فقيراً، ليجعلَ الأغنيةَ الكرديّةَ غنيّةً بالكلمات والموسيقا الرّائعة، وماتَ غنيّاً، ليجعلَنا نفتقرُ من بعدهِ إلى كلمةٍ صادقةٍ ولحنٍ شجيٍّ، فما أفقرَنا أمامَهُ، وما أغنانا!

هو صاحبُ ملحمة” ليلي سينم، وآزادي شيرين”، هو شهيدُ الكلمة واللحنِ. محمد شيخو، يسمعهُ العربيُّ فيشعرُ أنهُ يقولُ أشياءَ جميلة، ويسمعهُ اليونانيّ فيرتاحُ لصوتهِ. محمد شيخو، بنظّارتهِ التي كانت كمرآةِ حياتنا، وحذائهِ الطويل الذي كان كقبرِ الأطفال الصّغار، فقط صوتهُ يُلغي احتمالَ أن يكونَ وجودُنا غلطةً، فقط عندما يسعلُ تكفُّ كلُّ الضفادعِ عن النّقيق.

الطربُ عند محمّد شيخو ما كانَ يوماً الرقصُ والموسيقا، بل هو الألمُ والمُعاناةُ والتحرُّقُ شوقاً، كانَ يُطربنا: أي يجعلنا نبكي من الفرحِ، ونرقصُ من شدّةِ الألم.

بافي فلك، أميرُ الغناءِ الكُرديّ:

اسمهُ محمد صالح شيخموس أحمد، والمعروفُ ب” بافي فلك”، من الفنّانين الكُرد الكبار، ظهرَ في السبعينات من القرن الماضي، وعُرفَ بحسّهِ الغنائيّ الوطنيّ، ارتبطَ ارتباطاً وثيقاً بقضايا أمّتهِ القوميّة، وغنّى عن حبيبتهِ كُردستانَ ووصفها أجملَ الأوصاف. إنّهُ أكثر مَن عبّرَ بأغانيهِ عن ألم وعذاب شعبهِ، وشجّعَ نضالَهُ في سبيلِ قضيّتهِ، وحملَ همومَ المُجتمع الكُرديّ على ظهرهِ.

ولدَ في كنفِ عائلةٍ وطنيّةٍ كُردية عام 1948، في قرية كرباوي القريبة من مدينة قامشلي، وكان  منذُ صغرهِ مُحبّاً للغناء. كان المُجتمعُ آنذاكَ مُتحفّظاً إزاءَ فكرة الغناء، وينظرُ إلى الطرب بعين العَيب أو الممنوعِ عندَ بعض العوائلِ، غيرَ أنهُ لاقى الدعمَ المعنويّ والتشجيعَ من أهلهِ، وخاصّةً والده الذي كانَ يُدندنُ معهُ أغاني التراث الكرديّ في ليالي الشتاء الطويلةِ. وكانَ عمّهُ نجّاراً ومُحبّاً للطرب والموسيقا وأغاني الفلكلور الكرديّ، وبرفقةِ عمّهِ كان شيخو يصنعُ آلاتِ العزف من أسلاكٍ وتنكٍ، ثمّ قامَ عمّهُ بصُنعِ طُنبورٍ من الخشب لهُ، وكانت هذه اللفتةُ من العمِّ انعطافةً كُبرى في مسيرتهِ الفنيّة الطويلة.

بدايةُ مشوارهِ الفنيّ:

درسَ شيخو الابتدائيةَ في مدرسة خجوكي، والإعداديةَ في قامشلي، بالإضافة إلى تلقّيهِ أساسيات العلوم الدينيّة في القرية، وفي عام 1965 أُصيبتْ عينهُ بمرضٍ وصار يُعاني من نقصٍ في البصرِ، وأُعفي حينها من خدمة العلَم في سوريا، وبسبب صعوبة الحياة وقساوتها آنذاكَ تركَ الدراسةَ وعادَ إلى القريةِ للعملِ مع عائلتهِ في الفلاحة. تجوّلَ في تلكَ الفترةِ في العديد من القرى في المنطقة في مواسم الحصاد، وتعرّفَ على خليل يزيدي وحسين طوفي وحليم حسّو، حيثُ رافقهم في العديد من الحفلات والأمسيات في وقتها. تلكَ التجربة صقلتْ موهبتَهُ الغنائية، كما تعلّمَ اللغةَ الكُرديّةَ الفصيحة، واطّلعَ على نتاجاتِ كبار الشّعراء الكُرد وخاصّةً “جكر خوين” وحفظَ الكثيرَ من أشعارهِ عن ظهرِ قلب.

الترحُّلُ بينَ لبنانَ والعراق وإيران:

عامَ 1972، وبحضور رئيس الوزراء اللبنانيّ” صائب سلام” قدّمَ، ولأوّل مرّةٍ، بعضَ أغانيهِ، في صالة سينما ريغولي، ومنذ ذلك الوقت أُطلقَ عليه اسم” محمد شيخو” ، وأصبحَ عضواً في اتحاد فنّاني لبنانَ، وتعرّفَ على العديد من الفنانين اللبنانيين الكبار، أمثال نصري شمس الدّين، فيروز، وديع الصافي، عاصي الرحبانيّ، وسميرة توفيق. وعند بدء الحرب الأهليّة في لبنانَ عاد إلى سوريا، وأسّسَ فرقةً فنيّةً في مدينة رميلان، وقد تدخّلت الأجهزةُ الأمنيةُ وقتها ومنعتْ نشاطَ الفرقة.

في عام 1972 سافرَ إلى بغدادَ لإحياءِ حفلٍ فنيٍّ، وقامَ بزيارة القسم الكُرديّ في إذاعة بغدادَ، وفي عام 1973 سجّلَ بعضَ الأغاني في بغداد، حيثُ بثّتْ الإذاعةُ مجموعةً من أغانيهِ. وعقدَ هناكَ العديدَ من الصداقات الشخصيّة والفنيّة، أمثال شمال صائب، تحسين طه، محمد عارف جزيري، عيسى برواري، وغيرهم، وذاعَ صيتهُ بين الكُرد في العراق، وقام تلفزيون كركوك بتقديم برنامجٍ عن فنّهِ وأغانيهِ، وكذلكَ تعرّفَ على العديد من الشعراء والمثقفين الكرد،  وغنّى من قصائد الشّاعر بدرخان سندي، سكفان عبد الحكيم، خلف زيباري، ومصطفى الأتروشي.

وفي العام نفسهِ قام بزيارةِ جنوب كُردستان، والتقى حينها مع الملاّ مصطفى البرزانيّ الذي كان يقودُ الانتفاضةَ الكرديّة وقتها، وقد كرّمَهُ البرزاني وقدّرَ فنّهُ وشعوره الوطني والقوميّ تجاهَ القضية الكرديّة.

وفي العام1974 رجعَ إلى سوريا، وسجّلَ أولى نتاجاتهِ الفنيّة في دمشقَ باسم” كَوري” ، وقد تعرّضَ لضغوطاتٍ شديدةٍ من قبل المُخابرات السوريّة بسبب مضمون أغانيه الوطنيّة، ممّا اضطّرهُ إلى مُغادرة سوريا والالتحاق بصفوف البيشمركه في جبال شرق كردستان. وبعدَ اتفاقيّة الجزائر عام  1975 وانكسار الثورة، ذهبَ إلى جنوب كردستان وأقام في مُعسكر( ربت) وأصبحَ لاجئاً، وشكّلَ هناكَ فرقةً فنيّةً من جرحى وشباب المُعسكر، وزارَ مدينةَ مهاباد وسجّلَ فيها إحدى أهمّ أعماله ” أي فلك ” وكذلك كاسيت” من مهاباد منبع دماء الشّهداء” ، ونتيجةَ ضغوطات السافاك الإيرانيّ بسبب مضمون أغانيه السياسيّة والقومية، نُفيَ إلى مكانٍ بعيدٍ بالقُرب من بحر قزوين على حدود أذربيجانَ، ومُنعَ من الغناء،  وهناكَ تعلّمَ اللغةَ الفارسيّة وعملَ كمُدرّسٍ للتربية الإسلاميّة والتي كانت تُدرَّسُ باللغة العربية، وخفّضتِ الحكومةُ الإيرانيةُ من راتبهِ لأنهُ أجنبيّ، وضغطتْ عليهِ لكي يعملَ معهم، لكنهُ رفضَ، وكان مُستعدّاً أن يموت جوعاً دون أن يذلّ نفسهُ للسُلطة في إيرانَ.

نسرين، نصفهُ الآخر:

هناكَ تعرّفَ على الفتاة التي صارتْ شريكةَ مُعاناتهِ ” نسرين”، ابنةُ أحدِ بيشمركة جمهورية مهاباد، حيثُ كانت عائلتُها أيضاً منفيّةً إلى هناك، وكانت طالبةً عندهُ في المدرسة، أحبّها وأغرمَ بها إلى حدّ الجنون، وأبدعَ فيها أغنيتهُ المشهورة” نسرين” ، وتزوّجَ منها رغمَ الضغوطات الأمنيّة من قبل السُلطات الإيرانيّة، بعد أن رفضَ عرض إذاعة إيران في القسم الكُرديّ، رغمَ الإغراءات الماديّة العالية وقتها. وأنجبَ منها أربعة أطفال: بيكس( الأوّل) الذي مات بعد ولادتهِ بسبب الجوع وعدم توفّر الحليب والغذاء، وفلك، وإبراهيم، وبروسك.

وفي عام 1983 أُجبرَ على العودة إلى سوريا من قبل حكومة الخُميني، حيثُ أُحيلَ إلى محاكم الحرس الثوري بتهمة الشيوعيّة.

الرجوعُ الأخير:

في القامشلي، عام 1983 أسّسَ فرقةً موسيقيةً وقامَ بإعطاء الدروس الموسيقية، وسجّلَ آخرَ أعماله عام 1986، ثمّ افتتحَ مشروعهُ المتواضعَ ” استوديو فلك”، ومن جديدٍ تدخّلت السُلطاتُ السوريّةُ وأغلقتْ محلّهُ بالشّمع الأحمر.

وفجأةً أُصيبَ بمرضٍ، دخل على إثره المشفى الوطني في قامشلي، وتوفّي في التاسع من آذار عام1989، ودُفنَ في مقبرة الهلاليّة وبمُشاركةٍ شعبيّةٍ واسعةٍ لا نظيرَ لها، تاركاً للأجيال إرثاً غزيراً من الأغاني الوطنيّة والقوميّة والعاطفيّة، موصياً الشّعبَ الكرديَّ بموّاله الشهير” عندما أموتُ، أيها الأحياءُ، لا تدفنوني مثل الجميع، أيقظوني في كلّ آذار” .

محمّد شيخو، كان مُثقّفاً وفنّاناً، لذا قالَ كلَّ الأشياءِ البسيطة بطريقةٍ صعبةٍ جدّاً، وقالَ كلَّ الأشياءَ الصّعبةَ بطريقةٍ بسيطةٍ.

محمد شيخو، علّمَ الأجيالَ” أنْ تكتبوا عن الحُبّ خيرٌ من أن تكتبوا عن الحربِ”، وأنّ الراءَ الفاصلةَ بينهما هي سرُّ عيشِ الكُرديّ ودليلُ وجودهِ.

محمد شيخو، أسطورةُ الغناء الكُرديّ وبحرُ الموسيقا الأصيلة، المُحبُّ لقوميتهِ، العاشقُ لتراب وطنهِ، ماليءُ الدنيا وشاغلُ الناس، بصوتهِ الشجيّ وألحانهِ المُميّزة، وذكائهِ في اختيار كلمات أغانيهِ.

محمد شيخو، الظاهرةُ التي لم ولن تتكرّرَ بسهولةٍ في عالم الفنّ الكُرديّ، المُترحّلُ ما بين البلادِ والعاشقُ دوماً لقامشلي، الذي سجّلَ مُعظمَ أغانيه في بيوتٍ سريّةٍ وبأدواتٍ بسيطةٍ، دونَ إيقاعاتٍ أو مؤثّراتٍ صوتيّةٍ أو تجهيزاتٍ حديثةٍ.

ليسَ مُصادفةً أن يموتَ شيخو في آذارَ، وأن نُحيي ذكراهُ في أوّل كلِّ ربيعٍ، لأنهُ خُلقَ ليكونَ صديقَ الحُبّ والشّهداء، فهو حاملُ العشقِ والوجعِ معاً.

محمد شيخو، الذي صرخَ حين كانَ الهَمسُ ممنوعاً، وحدهُ الشُجاعُ الذي أحسنَ الإجابةَ عن سؤال ” جكر خوين”: كيمه أز؟ ليقولَ لنا: أنا محمّد شيخو.

سليمان محمود

زر الذهاب إلى الأعلى