مقالات

أبجدية الحل: الهدف.. القيادة

sehanok-dibo2سيهانوك ديبو

قالها أحد المفكرين قبل مائة عام: هناك قيادات تقود شعوبها إلى التهلكة، وهناك قيادات تأخذ شعوبها إلى بر الأمان.

ومع أن مفهوم البيئة المجتمعية وبكل تفاصيلها يكاد يكون بغالبه متحركاً وفق منحى النسبية؛ لكن؛ بعض الأمور المفصلية لا تحتمل النسبية، وإنما تخضع إلى حسابات السياسة وتتبع إلى مقاييس التكتيك والاستراتيجية والهدف الذي يحددهما، فهي في نهاية المطاف نتائج مُقدّرة مرتهنة بشيئين اثنين: القيادة والهدف.

وإذا كان السوريين مدركين بمجملهم أن سوريا في هذه اللحظات تنعطف يساراً ويميناً بشدة كبيرة لا يمكن لأحد التكهن بمصيرها وأين سينتهي بها هذه الأزمة، ولكنهم ما زالوا -من المفترض- أنهم يسألون أنفسهم؛ أية أسباب حملتنا إلى مثل هذه النتيجة؟ ومن المؤكد أن الأصوات السياسية- من المفترض أن تكون سياسية- تعلو وتصرخ بأن يتم وقف هذا التدمير؛ هم؛ أنفسهم من الأساسيين الذين أدوا إلى هذه النتيجة بعد تأكيدهم بأن النظام الاستبدادي آيل للسقوط، وسقوطه مجرد أيام. والنظام الذي وسم الحراك الثوري ومطالب الشعب بأنه متبوع لثلة إرهابيين، قابلته مصفوفات معارضة وأغلبها أوجدتهم الصدفة؛ أي معارضي الصدفة. وبات كلا الطرفين مرتهناً للماورائي وممثلاً لأجندة الدول التي تدعم كلاً منهما على حدا، ولا غرابة لو قلنا بأن حجم العاطفة الممارسة والرغبة التي سادت؛ زاد من حجم الارتهان للجهات الخارجية؛ وبالأخص؛ منها صاحبة الخطوط الحمراء، فمن دولتين صدر أكثر من مائة مرة خطوطاً حمراء وصدّقها البعض، ولا غرابة لو قلنا أن حجم هذه العاطفة وهذه القيادات (من الطرفين) كان صانعاً مهماً لداعش كزمرة: موجودة؛ مستأجرة؛ مستباحة، ومشهد التحالفات كان متغيراً طيلة السنين الخمسة المنصرمة، وكانت الأحلاف في إعادة انتاج مستمرة، وكانت المسميات متبدلة من أصدقاء الشعب السوري إلى التحالف العسكري الإسلامي.

ولأن المشهد ثوريُّ في البدء وفي المتن وفي النهايات؛ لم يحتمل وجود هذين القطبين فقط أو لنقل هاتين التكويرتين فقط؛ فكان؛ لا بد من نهج وطريق ثالث: ليس مع النظام وليس مع المعارضة التي تشبه النظام في كل شيء وتختلف معه من يكون في السلطة فقط، والطريق الثالث الذي ظهر في روج آفا/ شمال شرق سوريا؛ مكروه؛ محقود عليه؛ تتجنبه التكويرتين، وببساطة تخاف منه. يقول التاريخ: الشعوب الظمآى تدرك وحدها معنى الحرية، والكُرد أكثر الشعوب في العالم عطشت لمذاق الحرية لأنها لم تعرف مذاقه، ودأبت في كل مراحل تاريخه مع الشركاء- من المفترض أنهم كانوا شركاء- لصناعة حرية المجتمع المتعدد، وبالرغم من أكثر من مليون شهيد في القرن العشرين وحده؛ لكنهم بقوا خارج الدوائر، وفي الوقت نفسه بقيت الشعوب الأخرى تعيش في سجون كبيرة مدرائها قيادات سلطوية ارتهنت أيضاً للخارجي الماورائي، وفعل الحرية لم يتعرف عليها السوريين أيضاً، وقد حدث جنيف واحد وانعقد جنيف اثنان وتعثّر جنيف ثلاثة، وفي كل فشل ارتفع فيه منسوب تبعثر السوريين في كل حدب وصوب وتتدمرت سوريا. وبالرغم من كل ذلك يبقى الأمل موجوداً ويبقى الحل يظهر كواجب أخلاقي ومعرفي وسياسي، وهو بطبيعة الأحوال أي الحل موجود ولكن قيادات الصدفة ومعارضات الصدفة تصر على إتيانه من جهات لم تتعرف بدورها يوماً على الحرية، ومثل تلك الجهات أكثرها بطشاً لشعوبها، وعلى سبيل الأمثولة؛ أردوغان الذي لم تستطع تربة الأكوادور أن تتحمل ظله؛ بات في نظر التكويرة السورية الثانية مُخَلّص سوريا، وسلطة العدالة والتنمية التي قتلت مئات المدنيين الأطفال والنساء ودمرت في أقل من شهرين ما يقدر بثمانية مليارات دولار أمريكي؛ في نظر بعض السوريين باني سوريا الأول، من يقتل شعبه فهو خائن ولا فرق بينه وبين جاره الذي اختلف معه وخالفه بالصدفة أيضاً.

كيف ستكون سوريا المستقبل؟ يكمن في جواب هذا السؤال كلّ الحل؛ خاصة؛ إذا ما أدركنا أن النظام في سوريا قبل آذار 2011 هو أصل المشكلة السورية برمتها وسبب اشترك به مع من يشبهه في كل قتل وتجويع وتشريد وتهجير وتدمير. وإذا كانت كل أنواع المعارضة (الحقيقية- الصدفة) قد أكدت في مخرجات مؤتمراتها بأنه لن يكون لمنظومة الاستبداد وزمرته ورئيسه مكان في سوريا المستقبل فمن المفترض بأن يعوا بأن المنظومة حطبٌ لجذع النظام الاستبدادي الذي سبّبه وأحدثه وخلقه وجعله متربصاً على رقاب الشعب السوري، وهي المركزية، وهي الاستبداد المركزي، وأن الحل يكمن في اللامركزية ويكمن في الاتفاق على تصور جديد جِديّ يكمن في فيدرالية الجغرافية السورية، وأن النظام في سوريا المستقبل هو نظام فيدرالي يعتمد الجغرافية في نشأتها، وأن الإدارة الذاتية الديمقراطية مضمون وصيغة والفحوى السياسي لهذا النظام. لا تعصب قومي؛ لا تعصب ديني؛ لا تعصب طائفي، لا تعصب مذهبي.. يمكن أن يظهر في مستقبل البلاد، وفرص ظهور الاستبداد سيكون باحتمال الصفر.

الحل الذي يأتي من أفق الإيكولوجيا المجتمعية

أول افتراض في المفهوم البيئي أن الأنظمة البيئية ليست “مغلقة”، ولا تكفي نفسها بنفسها بصورة مطلقة، فكل نظام بيئي يتفاعل مع غيره من الأنظمة الأخرى، والعالم الطبيعي يتكون من شبكة من الأنظمة البيئية أكبرها المنظومة البيئية العالمية التي شاعت تسميتها بـ”المجال البيئي” أو “المجال البيولوجي”.

وقد غيّر التطور العلمي لعلم البيئة المفهوم عن العالم الطبيعي، ووضع الإنسان من المفهوم الذي يجعل الإنسان “سيدا” على الطبيعة إلى تصور يرى عكس ذلك، فالبشرية في الحاضر تواجه احتمال وقوع كارثة بيئية يعود السبب فيها تحديداً إلى أن الإنسان في ملاحقته العمياء والمندفعة للثروة المادية أخل “بميزان الطبيعة”، وهدد الأنظمة البيئية التي لا يمكن للحياة البشرية أن تقوم إلا بها. وعنصر المرأة أكثر حفاظاً على الطبيعة؛ لأنها الأم حاملة قيم الرعاية والرحمة، وهو ما يؤدي إلى مركزية الأنثى في النهاية. أي أن المرأة ستحرر نفسها من الثقافة البطريركية الأبوية الذكورية إذا تحالفت مع “طبيعتها الأنثوية”، والمفهوم الذي يربط المرأة بالطبيعة ليس بجديد، فطالما صور علماء الاجتماع أن العصر الأمومي صورت الأرض والقوى الطبيعية كإله، وقد أُحييت هذه الفكرة من جديد في ممارسات الإيكولوجيين الاجتماعيين ومن بينهم الفيلسوف أوجلان. ومؤيدو الحركة النسائية المحدثون يبرزون القاعدة البيولوجية لقرب المرأة من الطبيعة في حقيقة حملها للأطفال وإرضاعهم، كما يشكل التصاق المرأة بالإيقاعات والعمليات الطبيعية توجهها السياسي والثقافي. ومن ثم تتمثل القيم “الأنثوية” التقليدية في مبدأ المعاملة بالمثل والمشاركة والتنشئة، وهي قيم “لينة” ذات طابع بيئي، وإذا كانت ثمة رابطة “حتمية” أو “طبيعية” تربط بين المرأة والطبيعة؛ فلأن علاقة الرجل بالبيئة تختلف اختلافًا شديدًا، فبينما المرأة تعتبر كائنا طبيعيا يعد الرجل كائنا ثقافياً، فعالم الرجل صناعي من صنع الإنسان، وهو نتاج الإبداع البشري لا الإبداع الطبيعي؛ إذًا يتقدم الفكر في عالم الرجل على الحدس ترتيباً، وتتفوق القيمة المادية على الروحانية، كما يكون الاهتمام بالعلاقات الميكانيكية أكثر من العلاقات الكلية.

وَوفق ما تقدم نستطيع تعريف الإيكولوجيا المجتمعية في الأمة الديمقراطية: أنه نموذج لفك هيمنة الطابع السلطوي والذكوري وبالتالي اتباعها من سيطرة المجتمع بالدولة. والسلطة التي تنشأ بفعل الدولتية- القوموية تلحق الضرر بالمحيط الحيوي أيضا، وتتعمد على إخضاع البشر للظلم الاجتماعي على نطاق واسع.

*لا يمكن تقسيم المحيط الحيوي والذي يشكل الإنسان جزءا منه وليس سيده؛ إلى طبيعي بشري وطبيعي جامد. ونحن البشر جزء من العالم الطبيعي ونحن الذي نلحق الضرر من خلال قدراتنا على شعوذة الرمز “طبيعة ثانية”.

*الرأسمالية والحداثة الرأسمالية تتسلط من خلال مفاهيم التملك فقط، وبالتالي تنظر إلى الطبيعة على أنها الجزء الذي يستطيع تسخيره من أجل الربح فقط، وهذا هو الدمار الذي سينهي البشرية نفسها بعد استنفاذ الطاقة الخلاقة في الطبيعة.

الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه الفكر السياسي الغربي بشأن “مركزية البشرية” أو التمركز حول الإنسان، أي أن البشر هم مركز الوجود، وأن من بين البشر يجب أن تكون فئة منهم هي سيدة النوع ” البشري” نفسها وهي الحاكمة بأمورهم، فليس من الغريب- وفق نظرية المركز- أن نسمع كلمة شرطي العالم، القطبين، الشمال والجنوب، الشرق والغرب، النواة والأطراف…. وهو ما دمر وشوه العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية، وبدلا من المحافظة على كوكب الأرض واحترامه واحترام الفصائل المختلفة التي تعيش على سطحه سعى الإنسان -كما وصفه جون لوك- ليصبح “سيدا للطبيعة ومالكها”، ومتملكا وسلطويا كما دعا أيضا، وساعدت الفردية الليبرالية على انطلاق مشروع التراكم الرأسمالي التحديثي بمقاييسه الاقتصادية النقدية بعيدًا عن التكلفة الإنسانية والطبيعية، معطيًا الإنسان الضوء الأخضر للسيطرة على الطبيعة والزعم بالقدرة على معرفة كل أسرارها بالعلم بعد التحرر من الغيب والدين، فتم استنزاف الطبيعة لراحة الإنسان ومصلحته.

إن منطق الذكاء التحليلي في المجتمعات الرأسمالية والذي يُساق وفقه الفرد، هو منطق تسويقي لا أخلاقي، فاعتبار الفرد الأحادي هو مركز المجتمع، وأن كان سعيدا سوف يستطيع اسعاد البشرية وأن كان حزينا لا يستطيع، وفق هذه التعويذة، تم تشظي المجتمع وتحويله إلى نويّات متخاصمة ومتباعدة، من السهولة أن تنقاد إلى مادة أو عرف يصدر من مؤسسة أو حتى من جمعية، مهما كانت هذه المادة غير أنسية، وخاصة فيما يتعلق بالتوسيمات التي صدرت في حق أمم وأحزاب وأشخاص، وفق هذه الرؤية توجّهَ منْ توجه إلى الشرق. وفي بدايات القرن العشرين بدأ برسم الخرائط، وتشكيل واقعات اجتماعية، أدخلت هذه التقسيمات في حروب لم تكن حروبها، وبالتالي خلقت نماذج التلويحات المجتمعية، بعد خلق ظاهرة مُصدرة هي ظاهرة الوطنية المفروضة، علما أن الوطنية يشبه التعاقد من الروابط الأولية التي يُتخم منها الروابط فوق الأولية، فيعقد الإنسان فيما بينهم وينحون إلى تشكيل ظاهرة الوطنية، ففي سوريا مثلا، الجغرافيا، والدولة، والهيكلة، وحتى العدو، تم تصديرها إلى الشعب السوري بالحدود الحالية، فدخل حروبا لم تكن حروبه؛ زُجَّ إليها، وانقاد بلا أدرية، إلى اكمال الجزء الثاني وتأسيس الدولة المفترضة وفق رؤية ورغبة المستعمر الرسام، الدولة المتسلطة بالنزعة القومية والتي أدت إلى تشكيل وعي سليل الوعي الذي يليه فكان زائفا غير حقيقي، استبدت الدولة المرسومة بعناصر تكونها فخلقت حالة متطورة من التحاجز الاجتماعي، تشتيت مبدأ الهوية السورية، وهذا الأخير مرده التسلط العامودي، وهذا كله ما أثلج صدر الرسام ” المستعمر” متيقنا أنه يستطيع في أية لحظة، أن يكون موجوداً، فكان موجودا في لبنان وفي العراق وفي مصر وفي تونس، وكان موجودا مسبقا “لم يبرح أمكنته” في دول أخرى من خرائط وجغرافيات مستحدثة مستقطعة.

الحل هي الأمة الديمقراطية، والقيادة هي التي تخلق جراء تمكين الإدارات الذاتية الديمقراطية في كل الشرق الأوسط، وسوريا التي تُنحر اليوم يمكن أن تكون المكان الأنسب وفق هذا الحل وهذه القيادة.

زر الذهاب إلى الأعلى